عربيةDraw :
تحوّلُ مقتدى الصدر إلى واعظ ديني، كما ظهر في مسجد الكوفة مؤخرا، كان بمثابة إشارة إلى خصومه السابقين بأنهم يستطيعون أن يقطعوا شوط قيادتهم للحكومة إلى نهايته من دون منغصات.
ويحاول رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني أن يُمسك بتلابيب سلطته جيدا بتقديم الوعود لمكافحة الفساد، وإبعاد الوزارات الأمنية عن سلطة الميليشيات والأحزاب، وتقديم تطمينات لحلفائه السنة في ما يتعلق بعودة المهجرين وإلغاء التصاريح الأمنية للتحرك بين المحافظات، والسعي لتسوية مشاكل المركز مع إقليم كردستان حول ملف النفط وعائداته.
كل ذلك من أجل أن يمهد الأرضية لبرنامج إنفاق عريض يستفيد من وجود احتياطات مالية تبلغ نحو 100 مليار دولار. وهي ما كانت بمثابة الركن الأساسي للصراع بين جماعات “الإطار التنسيقي” و”التيار الصدري”. وذلك على اعتبار أن الطرف الذي يتولى السيطرة عليها، سوف يتمكن في النهاية من تحقيق أفضلية انتخابية تسمح له بالبقاء في السلطة لفترة أطول بكثير من الحكومة الحالية التي كان من المفترض أن توصف بأنها “حكومة انتقالية” ريثما يتم إجراء انتخابات مبكرة جديدة.
ويعني غياب التيار الصدري عن الحراك السياسي أنه يتخلى فعليا حتى عن لعب دور المعارضة، حيث لم يعد الحراك يتعلق بالنظر إلى أعمال سابقة قامت بها جماعات الفساد والولاء لإيران وجرائمها، ولكنه بات يتطلب فشلا من هذه الجماعات خلال سلطتها الحالية، أما السابق من أعمال النهب والاغتيالات التي قامت بها من قبل، فـ”عفا الله عمّا سلف”.
والفشل أمر سوف تفعل حكومة السوداني كل ما بوسعها لتحاشيه. حتى أن السوداني أصدر قرارا يحاول تسوية بعض المطالبات الحقوقية للذين تعرضوا للاعتقالات وأعمال التعذيب في سجون الميليشيات. ويرجح المراقبون أن ينتهي الأمر بطي الصفحة من خلال تقديم تعويضات للضحايا، بمن في ذلك لأسر الذين سقطوا خلال انتفاضة تشرين بين عامي 2019 و2020.
كما أن “الحراك” الصدري لم يعد يملك موضوعا لكي يتحرك على أساسه، فهو تخلى عن “الموضوع” وترك حبله على الغارب، سواء بالنسبة إلى قضايا مكافحة الفساد، أو الابتعاد عن النفوذ الإيراني.
ووجود المال بين يدي جماعات “الإطار” سوف يساعده على ما هو أكثر من التخلص من “معارضة” الصدر أو قدرته على إثارة الضجيج، وذلك بإطلاق مشاريع واستثمارات تؤدي إلى تشغيل مئات الآلاف من العاطلين عن العمل. وبدلا من المشاريع الوهمية التي وفرت لإيران السبيل للفوز بعقود بعشرات المليارات من الدولارات خلال عهد حكومتي نوري المالكي بين العامين 2006 و2014، والتي دفعت العراق إلى حافة الإفلاس، فإن الوضع الراهن سوف يسمح لحكومة السوداني بتغطية المشاريع التي تتولاها إيران هذه المرة بتنفيذ أعمال حقيقية، لتظل النتيجة واحدة من ناحية تغذية الميزانية الإيرانية بعشرات المليارات من الدولارات.
ولن تطال مكافحة الفساد العهود السابقة، ولكنها سوف تركز على ملاحقة الجريمة الأخيرة المتعلقة بصندوق أمانات هيئة الضرائب في مصرف الرافدين، وبعض مما قد يطفو على السطح لاحقا.
وبحسب الخبرات التي اكتسبتها حكومات الميليشيات السابقة في أعمال “التسقيط”، والتي تعني توريط الخصوم بأعمال مخلة بالشرف أو بأعمال فساد، فهناك ما يبرر الاعتقاد بأن جريمة صندوق أمانات الضرائب والتي أدت إلى نهب 2.5 مليار دولار، ربما كانت هي نفسها من إعداد مسبق، لتوريط بعض الخيوط التي تؤدي إلى التيار الصدري أو أتباعه. والهدف من “التسقيط” لا يقتصر على إسقاط تلك الخيوط فحسب ولكن أيضا للظهور بمظهر الطرف الذي يكافح الفساد رغم أنه “صناعة محلية” من صناعات جماعات الإطار.
ولتوقيت الكشف عن الجريمة دلالته، إذ تزامن مع انقضاء عهدة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي. كما تزامن، من بعدها، مع تصفية بمجزرة وظيفية أطاحت بالعديد من مسؤولي الإدارات الحكومية والأمنية التابعين للتيار الصدري.وانسحاب الصدر من العملية السياسية، وسحب نوابه من البرلمان، وإعلانه اعتزال العمل السياسي ليترك فراغا تحتله جماعات الإطار التنسيقي، ربما كان هو نفسه جزءا من تدابير “التسقيط” المعدة سلفا، ما وفر لجماعات “الإطار” أوراقا ما تزال غير مكشوفة للدفع بالصدر وتياره إلى الخروج من المعادلة السياسية.
وكان ظهور الصدر كواعظ ديني، بدلا من ظهوره السابق كقائد سياسي، إشارة واضحة على أنه قرر رفع الراية البيضاء، راجيا النجاة بنفسه مما يتم إعداده له من تدابير.
ومن غير المرجح الآن أن يكون الاستسلام طارئا، أو مؤقتا، حتى أنه لا ينتظر الحصول على غطاء إيراني للقبول بعودته كلاعب سياسي في وقت لاحق. ذلك أن طهران وفرت له هذا الدور طوال الفترة بين عامي 2014 و2021، عندما تحول تياره إلى طرف ضد انتفاضة تشرين من أجل الاستيلاء على موقع المعارضة، وعندما أساء استخدام هذا الموقع بتبني شعارات مناهضة لإيران من بعد ذلك.
وهذا ما يفسر تنصل المرجع الديني كاظم الحائري من الصدر، وتنصل الحائري نفسه من دوره كمرجع ديني، وإعلانه الولاء التام لسلطة “الولي الفقيه” علي خامنئي، وهو ما كان بمثابة إعلان قطيعة تامة بين إيران ومقتدى الصدر.
وبالنسبة إلى إيران، انتهى دور الصدر كـ”مُعارض” في لعبة الكراسي الموسيقية بلا رجعة.
وقد تسمح إيران في وقت لاحق بظهور “معارضة” من بين الجماعات الموالية لها لكي تنافس الجماعات الأخرى، فتلعب الدور الذي كان يلعبه الصدر، وتبقى طرفا رابحا على الوجهين، إلا أن الوقت ما يزال مبكرا على ظهور “انقسامات” داخل “الإطار التنسيقي”، وذلك حتى يستكمل السوداني برنامجه لاستعادة “الاستقرار”، وضمان عودة جماعات الإطار إلى الفوز بأغلبية واسعة، قبل أن يتم السماح للانقسام أن يظهر من دون أن يؤدي إلى الإخلال بقواعد اللعبة الأساسية.
والنتيجة من ذلك هي أنه لا مستقبل للتيار الصدري على الإطلاق. ومع “مجزرة الوظائف” التي تم تنفيذها ضد مسؤولي الإدارات الحكومية والأمنية التابعين للتيار، والتي استقبلها الصدر بالصمت والاستسلام، فإن التيار لا ينتظر شيئا أكثر من التصدع والانهيار ليبقى تركيز مقتدى على المؤسسات التابعة لعائلة الصدر مثل هيئة تراث الصدر ومتحف آل الصدر ومرقد والده. وهذه مؤسسات تمتلك تمويلات خاصة، كما أن حكومة السوداني، على غرار الحكومات السابقة، يمكن أن تدعمها، وذلك على سبيل التسوية الشخصية مقابل الصمت، أو الاكتفاء بـ”المواعظ”.ومقتدى الصدر ليس من بين الذين يمكن أن يلعبوا دورا في اختيار خليفة للمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني. وصحيح أن الانطباع السائد هو أنه يفضل أن يكون على رأس المرجعية رجل دين عراقي، إلا أن القرار بهذا الشأن يعود لإيران.
وتقول حكومة السوداني إنها تريد الإعداد لانتخابات مبكرة، إلا أن كل الدلائل المتعلقة ببرامجها تشير إلى أنها تزمع البقاء في السلطة لنحو ثلاثة أعوام على الأقل. وسوف تحرص باستمرار على التعامل مع مقتدى الصدر وكأنه غير موجود، لاسيما وأنه هو نفسه يتصرف الآن وكأنه غير موجود أصلا.
وطالما أن القانون الانتخابي كان واحدا من أبرز قضايا الخلاف بين “التيار” و”الإطار”، فإن وجود التيار خارج دائرة التأثير، ونجاح السوداني في تلبية مطالب حلفائه في الكتلتين السنية والكردية، سوف يوفران له الفرصة لكي يفصل قانونا انتخابيا يتناسب مع مقاس جماعاته، ويضمن بالدرجة الرئيسية وضع نهاية تامة لذلك الشيء الذي كان يدعى “التيار الصدري”. والاختبار الأول في هذا السياق سيكون من خلال انتخابات مجالس المحافظات التي من المنتظر أن تجرى خلال العام المقبل.
ولم يكن الاعتقاد القائل بأن مقتدى الصدر ارتكب خطأ “إستراتيجيا” بانسحاب نوابه من البرلمان ناجما عن سوء تقدير لمدى قدرته على التأثير أو عن خطأ في حساب موازين القوى، ولا حتى عن سذاجة سياسية. ولكنه كان هو الشيء الوحيد الذي تُرك له لكي يفعله. ولم يكن الصدر يملك خيارا آخر غير أن يرفع راية الاستسلام لينجو بنفسه فقط.
المصدر: صحيفة العرب اللندنية
Read more