كورونا يعطّل استئناف الثورات العربية
2020-12-03 06:29:44
كمال عبد اللطيف
يقترب في الشهر الحالي (ديسمبر/ كانون الأول 2020) زمن الثورات العربية من إكمال عقده الأول. انطلق الحراك السياسي والاجتماعي في تونس، وملأ بعد ذلك الشوارع والميادين في أغلب البلدان العربية. أسقط أنظمةً سياسيةً في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان، وترتبت عنه إصلاحاتٌ شملت دساتير بلدان عديدة، وأوصلت بعض تنظيمات الإسلام السياسي إلى مراكز القرار في كل من تونس ومصر والمغرب. كذلك أدّى إلى زعزعة أركان أنظمة أخرى، مثل النظام السوري الذي ارتمى، منذ بداية الثورة، في أحضان قوى إقليمية ودولية، منحته القدرة على الاستمرار صورياً على رأس السلطة، وألحقت بالشعب السوري أضراراً عديدة، حيث وقع تخريب كثيرٍ من مؤسسات الإنتاج وبنياته، وَتهجير المواطنين في ظروفٍ قاسية، بسبب تسلطية النظام المُسْتَبِدّ وعنفه، وبسبب حسابات القوى الدولية والإقليمية، وضعف تنظيمات المعارضة السياسية التي لم تستطع مواجهة القِوى التي احتلت البلد من جميع جهاته.
اختارت بلدان عربية أخرى لم تُنْتِج قواها المجتمعية والسياسية حراكاً سلمياً مماثلاً، بحكم قوة الأيدي المستبدة، القيام بثوراتٍ مضادّة، مخافة وصول رياح التغيير، فَعَمَّ الحراك الثوري بأشكال مختلفة أغلب البلدان العربية، وتحول الوطن العربي من الخليج إلى المحيط إلى أرض تُخفي وتُظهر كثيراً من الغليان السياسي.
ننتظر استئناف الحراك الثوري، وذلك بمزيد من العمل بتفاؤلٍ كثير، من أجل اختراق حواجز الثورات المضادّة
قِيل الكثير عن الثورات العربية، وعمّت المجتمعات العربية أناشيد تَغَنَّى فيها الشباب بالحرية والديمقراطية ووقف أخطبوط الاستبداد، وقد أصبح مرهقاً ومخيفاً. أَهَلَّت الثورات في زمن بدت فيها علامات شيخوخة، أنظمة سياسية عربية كثيرة ثابتة ومؤكدة، كما شاخت المعارضات التي حرمت الشباب التداول على "تدبير" المبادرات السياسية، القادرة على زحزحة أنماط التفاعل السياسي النمطي، المستوعب لأشكال من التواطؤ المُحاصِر لإمكانية التغيير والإصلاح، إضافة إلى وجود أنظمة تفنّنت في تركيب المشهد السياسي الذي يناسبها والمعارضة التي تقبلها. أصبحنا أمام انحرافٍ سياسيٍّ مكشوف عن القيم التي نشأت بعض الأنظمة العربية من أجلها. ففي نهاية القرن العشرين، بدأ الحديث عن انتقال السلطة في مصر إلى نجل حسني مبارك، ونجل معمر القذافي في ليبيا، ويمكن أن يضاف حكام آخرون، وأنظمة أخرى، في اليمن وسورية والجزائر وفي دول الخليج، ولا نستثني أحداً.
تحدّث الذين شككوا في الحراك الثوري العربي عن الأحوال التي آلت إليها المجتمعات التي انفجرت في ميادينها وساحاتها الانتفاضات الثورية، مُتحدّيةً حالات الخوف ومختلف أشكال القمع التي اعترضت حراكها. ولم يجدوا أي حرجٍ في القيام بمفاضلاتٍ غريبة بين زمن بن علي وزبانيته وما جرى بعد هروبه (أو تهريبه) من تونس، حيث انطلقت عملية بناء أفق سياسي جديد، بتنظيم انتخاباتٍ بتوافق مختلف الفاعلين السياسيين على تدبير مسارات ما بعد الحراك. نسي الذين يُقِيمُون المفاضلات التي تمنح زمن ما قبل الثورة امتيازاتٍ معينة مكاسب الفعل الثوري والأبواب الجديدة التي انفتحت اليوم في تونس مقارنة بما قبلها.
ندرج مآلات الراهن العربي في بلدان الثورات، بمختلف ما تحمله من تحولات، وشروط، في إطار الصعوبات التي ترافق الفاعلين الذين يساهمون اليوم في تدبير ما بعد الثورة، ونرى في الصعوبات التي تواجه تبيئة المشروع الديمقراطي في تونس الجديدة جملة من المعطيات المرتبطة بعسر بدايات ما بعد الثورة، في اندفاعاتها وأحلامها. كذلك إن الامتحانات التي خاضها الفاعل السياسي التونسي، خلال العشر سنوات التي مضت، ستتيح له التغلب على آثارها والاقتراب أكثر من الأفق الذي تطلع إليه الشباب التونسي، وهم يرفعون شعارات الثورة في شارع الحبيب بورقيبة.
لم تستطع الثورات المضادّة التي اختارت مواجهة المد الثوري، إيقاف صور الحراك الاجتماعي الذي تواصل طوال سنوات العقد الماضي
لم تستطع الثورات المضادّة التي اختارت مواجهة المد الثوري، باسم مواجهة الإسلام السياسي، أو مواجهة التطرُّف، لم تستطع إيقاف صور الحراك الاجتماعي الذي تواصل طوال سنوات العقد الماضي، حيث شاهدنا انتفاضات الشارعين، الجزائري واللبناني، وشَكَّلا معاً عناوين كبرى جديدة في مشروع مواجهة النظام الجزائري والنظام الطائفي في لبنان، واستوعبت الشعارات التي رفعها الشباب في بيروت والجزائر تطلعات مجتمعاتهم إلى بناء الأفق الوطني الديمقراطي. إلا أن حدث الانفجار الذي حصل في ميناء بيروت، واستمرار تطويق الآلة العسكرية المهيمنة على النظام والمجتمع في الجزائر، إضافة إلى الأزمة الصحية التي فجَّرها وباء كورونا ومقتضياته الداعية إلى الحجْر الصحي، أدت إلى توقف حراك الشباب، أو لنقل أدَّت إلى كُمُونِه، في انتظار العودة إلى الشارع وإكمال المسار الثوري المؤجّل، من أجل مجتمع المواطنة والديمقراطية في البلدين معاً، وإكمالها قبل ذلك وبعده في مختلف البلدان العربية.
تقف اليوم جائحة كورونا، لتدفعنا إلى توسيع دوائر التفكير في السياسة والتحولات السياسية، انطلاقاً من مقتضياتها وشروطها، وهي تُعَدُّ اليوم العنوان الأكبر والأبرز في كل المجتمعات، فقد أصبحت تشكل سقفاً ضاغطاً وقاتلاً، وأخبار ضحايا المصابين بفيروس كورونا، وقد تضاعف عددهم، تنبئ بوضع كارثي، وبتداعيات تشمل مختلف مرافق الحياة والعيش المشترك.
فعل الثورة ليس خطّياً، والجدليات التي يقيمها مع التاريخ في جريانه تخضع لعوامل معقدة ومركبة
نتبيّن، ونحن نراجع مسارات الأحداث وتطورها، أن فعل الثورة ليس خطّياً، وأن الجدليات التي يقيمها مع التاريخ في جريانه تخضع لعوامل معقدة ومركبة، خصوصاً عندما تتخذ الثورات في بعض أوجهها مظاهر عفوية، أو لا يقودها فريق واحد، أو تساهم في تدبير جوانب منها أصابع أجنبية، أو تكون ثورة شبابٍ ينخرط فيها ويقودها تحت ضغط مختلف أوجُه الحرمان، شباب لم يعد مقتنعاً تماماً بلغة المؤسسات السياسية وأفعالها المتواطئة مع الطائفية والاستبداد والتخلف... ثورة يلتحق بميادينها فاعلون بخياراتٍ سياسيةٍ متعدّدة ومتناقضة وهدف مركزي جامع، يتمثل بإسقاط أنظمة الاستبداد والفساد وبناء مجتمع جديد.
ننتظر استئناف الحراك الثوري، وذلك بمزيد من العمل بتفاؤلٍ كثير، من أجل اختراق حواجز الثورات المضادّة، مواجهة هرولة المطبّعين القدامى والجدد، مواجهة ضغوط الوباء وتداعياته، مواجهة الفروق الاجتماعية التي ساهمت الأزمة الصحية في فضح أوجُهها الأخرى.. الوقوف في وجه تسلّطية الأنظمة التي تمارس، زمن الوباء، تجريب وسائل وأدوات أخرى لمزيد من ضبط المجتمع.. ننتظر العودة إلى الحالة الثورية العربية، للانتصار على حالة الجمود والانقسام الفلسطيني في الأرض المحتلة، ووقف التغلغل الأجنبي في مجتمعاتنا.