بين "التنفس" و “الارباك”
2020-12-02 13:19:58
الحصادdraw :
آراس فتاح - مریوان وریا قانع ( يكتبانه للحصاد يوم الاثنين من كل اسبوع )
ترجمة : عباس س المندلاوي
العالم يعج بالاحداث المأساوية مثل الحروب والتهجير والجوع و تدمير البيئة .. والتي تحز في النفوس و توجع الضمائر الحية ، ولكن في كثير من الاحيان احد تلك الاحداث تتخذ بعدا عالميا وتصبح الابرز ، حدث غرق آلان الكوردي الطفل ذي ثلاثة ربيعا في عام 2015 والعثور على جثته الصغيرة على ساحل البحر ، اصبح رمزا لمأساة نزوح مئات الالاف من المدنيين والعوائل هربا من ويلات الحرب والجوع و سوء الحكم في مناطقهم ، و معرية سياسة اللامبالاة الدولية حيال ظاهرة اللجوء و غرق اعداد كبيرة من الهاربين الى اوروبا ، كانت لحظات بث صور العثور على جثته الصغيرة التي غادرتها الروح المتعبة رسالة منبهة لغرق الضمير الانساني في البحر الابيض المتوسط .
واحد الاحداث المؤثرة والمؤلمة والبارزة في عام 2020 المشرف على نهايته ، هو جريمة اقدام ضابط شرطة اميركي ابيض على خنق مواطنه (الاسود البشرة ) جورج لويد ومنع الهواء عنه حتى الموت ن والتي ربما ستعلق في الذاكرة الانسانية لمدة طويلة ، وابرز مايميز الحادثتين المروعتين هو منع الهواء ومنع التنفس ؛ فبعد اعتقال جورج لويد من قبل اربعة من رجال الشرطة في مدينة مينا بولس تم طرحه ارضا ويضع احدهما باسم ديريك شوفين ركبته على رقبته لدقائق ويضغط عليها بقوة ليحد من وصول الاوكسجين الى رئتيه وخنقه في النهاية ، وقبل ان يلفظ انفاسه المخنوقة الاخيرة يصرخ بصوت مختنق " لا استطيع التنفس .. لا استطيع التنفس " ، ولكن الضابط لم يهتم لصراخه وتوسلاته ويستمر بالضغط على رقبته ... حتى يقتله خنقا .
وعقب انتشار صور الحادث المروع ، ينزل ملايين الاشخاص الى الشوارع للتعبير عن غضبهم وسخطهم ، ليس للمطالبة بتقديم الجناة الى العدالة بل لاجراء اصلاحات و تغييرات جذرية في سلك الشرطة الاميركية وتطهيرها من التوجهات اليمينية المتطرفة المناهضة للسود و والاستهتار بحياتهم والتقليل من قيمتها وشأنها .
تلك المطالب اتخذت منحا عالميا ، الحادث الذي اشعل الشارع الاميركي اعطى قوة دفع هائلة للحركات المناهضة لليمين بصورة عامة وسيما لحركة " حياة السود مهمة " ، الاجتماعية السياسية المناهضة لليمين المتطرف في اميركا ، وعلى غرار المدن الاميريكة شهدت عدد من المدن والمناطق في العالم تظاهرات مناهضة لليمين ومطالبة بالتطرف اليميني وباحترام حياة السود .
وكما انتشرت صور العثور على جثة الطفل الان الكوردي الغارقة على ساحل البحرالمتوسط واحتلت صدارة وسائل الاعلام العالمية وشبكات التواصل المختلفة ، تناقلت صفحات وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي اللقطة الفيديوية لواقعة خنق المغدور جورج لويد ، وفي مدة يسيرة شاهد العالم باسره تلك الجريمة العنصرية المروعة ، وهذا ما جعل مصطلح " التنفس " من اهم كلمات عام 2020. "التنفس " اصبح كصرخة للحياة الكريمة واحترام الانسان دون تمييز و لصيانة الكرامة .
يعيش معظم الافراد والجماعات في اقليم كوردستان تحت نير حكم السلطات في الاقليم في حالة من الارباك الخطير في وضعيتي الاختناق والخنق كما أسلفنا ، الانسان الكوردي يواجه احتمالين غير انسانيين ؛ اما ان يترك وطنه و يهاجر كما حدث مع عائلة ( آلان الكوردي المفجوعة ) ، لايجاد بديل اخر لحياته ومعيشته غير الانسانية ، أو ان يبقى ويواجه مصير جورج لويد قبيل قتله وهو الصراخ ولكن دون مجيب او مهتم .
افراد المجتمع الكوردستاني يرزحون تحت ضغوط يومية من ممارسات حكام وسلطات الاقليم على شكل ارباك هاديء ومخنوق ولكن مستمر ، وهذا الارباك ؛ ارباكٌ له جوانب اقتصادية وسياسية و اعلامية واجتماعية بل واخلاقي ايضا .
وعلى الصعيد الاقتصادي يعيش اناس كثيرون تحت خط الفقر ، وينزل الى هذا المستوى المعيشي المتردي اعداد كبيرة من الناس باستمرار ، ان الاستمرار في تكًوِنْ اعداد كبيرة من العاطلين عن العمل ومعدومي مصادر الدخل المناسبة موازية لظهور اعداد قليلة من اصحاب الملايين والمليارات ( مليارديرية ) والاثرياء من اصحاب الارقام الفلكية من الاموال والنقد الاجنبي والعراقي ، ان العرف الذي يدير القطاع الاقتصادي في اقليم كوردستان يصنع ويخلق فقر مدقع و مرعب مقابل إثراء فاحش وخطير على خلفية نهج و مسار اساسه الفساد والسرقة والنهب و احتكار القطاع الاقتصادي عبر السيطرة والتحكم في المجالات الاقتصادية الرئيسة في الاقليم من قبل عدد محدود من الاسر السياسية ، ففي ظلام هذا النوع من الانظمة السياسية لن تجد اي فرصة للخلاص من هذا الارباك والاختناق الاقتصادي الذي يخيم على اليوم على الاقليم .
وعلى الصعيد السياسي تجد نفس الاختناق والارباك والضغوط الهائلة التي صنعتها نظام سياسي سلطاني ، وهذا المر لم يترك اي مجال لما يسمى الصالح العام والسياسة الوطنية ، وهذا الصعيد موبوء بالعلاقات غير الصحية والاتفاقات السرية ( تحت الطاولة ) وشراء الذمم والتزوير والتلاعب وهو محتكر من قبل عدة عوائل سياسية يرتبط بها شخصيات غير مهنية و متسيبة وغير ضليعة في السياسة ، والتي تجمعها نهم الحصول السهل والسريع على المال وتكديسه والاثراء السريع وغير الشرعي .
نعتقد ان الارباك الاقتصادي في اقليم كوردستان مصدره الارباك السياسي في المجتمع ، واللذين نبعا في البداية من عملية الاحتكاروالسيطرة التامة على الصعيد السياسي ، ومن ثم نقل تلك السيطرة والاحتكار الى الصعيد الاقتصادي والتحكم به ، ان المجال النفطي و المعابر الحدودية و عمليات التهريب والتبادلات التجارية الضخمة و توزيع العقود و وتشغيل رؤوس الاموال والاستثمارات المختلفة وغيرها من النشاطات الاقتصادية يسيطر عليها عدد محدود من الاشخاص المنتمين للعوائل السياسية الحاكمة والحلقة السياسية الضيقة و المغلقة حول تلك العوائل . ان احتلال واحتكار المجال السياسي من قبل افراد تلك العوائل السياسية الحاكمة والحلقة الضيقة المحيطة بها ادى الى اخلاء المجتمع الكوردستاني من اي قدرة جدية على تعديل اواعادة صياغة العلاقات ومعادلات وموازين القوى فيه .
الارباك الاعلامي ظاهرة اخرى خاصة بعالمنا ، فالقسم الاكبر من وسائل الاعلام في الاقليم موجه ومدفوعة الثمن و تحت السيطرة التامة ، فلا نجد سوى مساحة ضيقة للاصوات الحرة والاعلام المستقل الحر ، وهي مساحة صغيرة جدا وتمارس عليها ضغوط كبيرة ؛ فمن السهل لمس الارباك والتضييق الاعلامي في الاعتقالات المستمرة للاعلاميين والصحافيين المستقلين و نشطاء المجتمع المدني غير الخاضعين لسلطات الاجهزة الحزبية .
ان مهمة الاعلام المسير والموجه ليست محصورة في الدعاية لسلطات وحكام الاقليم بل تتعداها الى قلب وتزييف الحقائق من اجل خلق اجواء تصعب فيها تمييز الصدق والحقيقة عن الكذب والزييف ، بغية بث روح الاحباط والفشل بين افراد المجتمع ، وكذلك يستخدم هذا الاعلام الموجه والمضلِل كقوة مسلحة غير قانونية في الصراعات السياسية و العسكرية داخل الاقليم ، ومن وظائفه الرئيسية الاخرى انتاج وبث الفرقة وروح التناحر والتباغض و ضرب قيم و مباديء التعايش السلمي وتقبل الاخر.
ونجد لهذا الوضع المربك حضورا اجتماعيا قويا ، فلم نر في اي وقت مثل هذا التشرذم في مجتمعنا ولم يكن التعايش الانساني صعبا مثلما هو الان ، يواجه مجتمع اقليم كوردستان انقساما عموديا وافقيا مختلفا ، فلا وجود لاي إجماع مجتمعي او ديني او سياسي او حتى ثقافي ، فالقوتان ( الحزبان ) الحاكمتان اللتان تمتلكان القوات المسلحة الخاصة بهما ( البيشمركة و الشرطة والامن ) بامكانهما تقسيم الاقليم في اي وقت تشعران بخطرعلى سلطاتهما ؛ فتغلقان الحدود الفاصلة بين مناطق نفوذهما وقطع اي اتصال اجتماعي بين مناطق ومدن الاقليم ، مما يكل تهديدا وخطرا على نفسية المواطن ومزاجه الاجتماعي والسياسي فيخلق انغلاقا اجتماعيا ومناطقية و وارباكا اجتماعيا ويضرب التماسك والنسق المجتمعي كم ويضعف المودة والوئام بين سكان المناطق على الطرفين .
في جميع تلك المجالات يشبه وضع الاقليم ظروف صرخة جورج فلويد من اجل التنفس من نير ضغوط التهمي والاهمال المتعمد للسلطات ، ومن الناحية الانسانية يشبه ظروف عائلة الطفل الغريق آلان الكوردي، التي اضطرت الى الهجرة والنزوح من بلدها لكي تحتفظ بكرامتها وتتنفس الحرية ولكن اهوال البحر والغرق هو المصير ..
اذا كانت اللغة والحديث السائد في 2020 باميركا كان عن " التنفس " فان اللفظة والحديث السائد في عالمنا نحن بالسنوات الاخيرة كان هو " الارباك " . ان الذي تمارسه سلطات اقليم كوردستان بحق مجتمعنا هو الارباك المنظم الذي لا نهاية له الا بالفناء والموت او العصيان والتمرد ، ولا احتمال لوجود حل اخر بين الخيارين او ربما يكون من الصعوبة بمكان وجود حل اخر ...