جائحة متجددة ستُنهك العالم
2020-11-23 13:11:14
د. ياسر عبد العزيز
أحد أصدقائي يعمل في وظيفة تعليمية مرموقة، ويحمل شهادة الدكتوراه في أحد فروع العلوم التطبيقية، لكن هذا لم يمنعه أبداً من محاولة إقناعي بأن فيروس «كوفيد - 19» ليس سوى خدعة، وأنه «غير موجود على الإطلاق»، وقد كان هذا دأبه مع نهاية الشتاء الماضي، حين كانت الإصابات في منطقتنا محدودة، بينما تأتي لنا الأخبار عن وقائع انتشار وحالات وفاة عديدة في دول الغرب.
ما حدث لاحقاً أن صديقي هذا بات يعتقد أن «كوفيد - 19ا» موجود، بدليل أن بعض أفراد عائلته أُصيب به، كما أن أحدهم مات متأثراً بإصابته تلك. لكنه مع ذلك، وجد تفسيراً آخر، راح يحاول إقناعنا به على مدى نحو شهرين لاحقين، وهو أن «الغرض من تخليق هذا الفيروس هو تقويض الإسلام»، والدليل على ذلك أن الإجراءات الاحترازية آنذاك شددت على ضرورة تجنب الصلاة في المساجد.
لم يقف الأمر عند هذا الحد بطبيعة الحال، فالرجل نفسه تبنى في وقت آخر مقولة إن «كوفيد» تم تخليقه في مختبر صيني، قبل أن يعود وينفي ذلك مؤكداً أن التخليق قد حدث لكن في مختبرات الجيش الأميركي. أما آخر مستجداته فليست سوى أن «كوفيد» مؤامرة تستهدف إحكام السيطرة على العالم، عبر شبكات الجيل الخامس، قبل أن يطرح فكرة أن الفيروس يستهدف الحد من سكان العالم، وفق ما يؤكد أنه كلام مكتوب على «ألواح جورجيا الغامضة».
لا يتعلق هذا الأمر بشخص واحد بطبيعة الحال، بل هو عرض منتشر بين الملايين. وفي إحدى المقابلات التي أجريت معي عبر فضائية دولية قبل أربعة شهور تصادف أن توزع الحوار بيني وبين طبيبة متخصصة من فرنسا، وعندما حاولتُ الحديث عن أن الدعاوى المناهضة للقاحات يمكن أن تؤثر في فاعلية خطط بعض الدول لإجراء تطعيمات لمواطنيها، راحت تؤكد منظور التشكيك في اللقاح، فقالت بوضوح: «لن أُحقن بلقاح في حال توافره».
ليست تلك سوى آثار متوقعة لشيوع «نظرية المؤامرة». وقد عرفنا أن تلك النظرية تزدهر في أوقات الأزمات والصراعات الحادة، وعند شيوع الغموض وتزعزع اليقين. في تلك الأثناء بالذات، يصعب جداً القول إن ما نطالعه ونتداوله من معلومات، أياً كانت مصادرها أو أدلة التثبت المرفقة بها، يمكن أن ترقى إلى مستوى الحقائق، بل هي مجرد «روايات تتنافس». أما ما يجعل أحدهم قادراً على الركون لإحداها أو تبني بعضها، فقد يكون مبعثه هروبه أو ارتداده إلى معتنقات آيديولوجية أو «ثوابت» عقائدية أو أساطير شائعة في محيطه الاجتماعي.
على مدى القرن الماضي، لم يمر حدث عالمي رئيسي من دون أن يحظى بتفسيرات تعيده إلى «نظرية المؤامرة». وقد حدث هذا في تفسير أسباب الحرب العالمية الأولى، والكساد الاقتصادي العالمي، أو في واقعة «بيرل هاربور»، وفي «أحداث سبتمبر (أيلول) 2001»، أو إزاء حقيقة وفاة ألفيس بريسلي على سبيل المثال.
يمثل «كوفيد - 19» بيئة خصبة ومثالية لازدهار «نظرية المؤامرة»، وهو أمر تورط فيه علماء وأشخاص تلقوا تعليماً جيداً وسياسيون وقادة يحكمون أقوى دول في العالم، ويعد ذلك أمراً مفهوماً، بطبيعة الحال، لما تنطوي عليه أزمة الجائحة من تأثيرات حادة وانتشار كوني وغموض وتضارب في المعلومات.
لكن ما جعل «كوفيد - 19» تربة أكثر ثراء لـ«نظرية المؤامرة» يكمن في طبيعة المشهد الاتصالي الراهن، وهو مشهد تلعب وسائط «التواصل الاجتماعي» فيه دوراً جوهرياً، وعبر آليات الاتصال السهلة التي توفرها، وارتفاع أسقف الحوار عبرها بغير حدود، استطاعت أن تخلق بؤراً لتخليق هذا الفكر والاستثمار فيه.
في شهر مايو (أيار) الماضي، انتشر عبر تلك الوسائط فيلم تحت عنوان «جائحة مخطط لها» (Plandemic)، وهو الفيلم الذي شوهد أكثر من 8 ملايين مرة، قبل أن تبدأ المنصات في ملاحقته وحذفه. وفي الشهر الجاري انتشر على الوسائط ذاتها فيلم «هولد أب» (Hold Up)، وهو عبارة عن دراما اتخذت شكل الأفلام الوثائقية، بهدف إثبات أن الفيروس «وليد مؤامرة عالمية»، وقد شوهد نحو ثلاثة ملايين مرة على «الإنترنت»، كما حظي بدعم نجوم وشخصيات شهيرة.
يستخدم الفيلمان تقنيات متشابهة تقوم على مراكمة الحجج الداعمة لفكرة «المؤامرة»، وترسيخ الانطباع، والحذف الانتقائي، وتقديم ما يُزعم أنها حقائق بغرض الوصول إلى استنتاجات زائفة.
ومع أن أي مشاهد حصيف أو مدقق يمكنه ببساطة اكتشاف الخلل في الطرح، فإن مثل هذه الأعمال تلقى رواجاً وتكسب جمهوراً يوماً بعد يوم.