إردوغان والبرزاني.. يداً بيد ضدّ أوجلان
2020-11-07 07:47:35
قاتلت قوات البشمركة الموالية للبرزاني إلى جانب الجيش التركي ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني عام 1997، وبعدها عدة مرات، الأمر الذي يسعى إردوغان إلى أن يتكرر الآن بشكل فعال وسريع، مقابل دعم مالي من أنقرة
بعيداً من اهتمامات الإعلام العالمي المنشغل بأخبار جو بايدن ودونالد ترامب، عاد التحالف بين رجب طيب إردوغان ومسعود البرزاني إلى "سخونته التقليدية والتاريخية" بعد فترة من الفتور، بسبب عرقلة أنقرة مساعي أربيل للاستقلال في العام 2017، وهو ما أدى إلى زعزعة سلطة آل البرزاني السياسية والعسكرية والنفسية بعد دخول الجيش العراقي إلى المناطق المتنازع عليها في الشمال العراقي، بما في ذلك كركوك، "عاصمة كردستان وقلبها"، بحسب تعبير البرزاني.
وتتحدث المعلومات منذ أيام عن توتر جدّي بين قوات البشمركة الموالية للحزب الديموقراطي الكردستاني العراقي، بزعامة عائلة البرزاني، ومسلّحي حزب العمال الكردستاني التركي في العديد من مناطق شمال العراق، والذين يراهم البرزاني، كما هو الحال بالنسبة إلى بغداد، مبرراً للعمليات العسكرية التركية في المنطقة.
وجاء الانفجار الَّذي استهدف أنبوب النفط العراقي - التركي في 30 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، والذي ينقل في الوقت نفسه بترول كردستان العراق إلى تركيا، ومنها إلى "إسرائيل"، وفق المعلومات الصّحافية، ليعكس مدى جدية وخطورة هذا التوتر القابل للانفجار في أي لحظة، فقد سبق هذا الهجوم العديد من الاستفزازات المتبادلة والحملات الإعلامية التي اتهم فيها أتباع عبد الله أوجلان، من كرد تركيا وسوريا، مسعود البرزاني "بالتحالف مع إردوغان والتآمر على القضية القومية للأمة الكردية"، والمقصود بها هنا هو الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا، والمدعومة من واشنطن والعواصم الغربية.
ويعتقد البرزاني أنَّ هذه العواصم تخلت أو قد تتخلى عنه، بعد أن أثبتت وحدات حماية الشعب الكردية، وهي الذراع السورية للعمال الكردستاني قوّتها في التصدي لإرهابيي داعش، الذين ما زالوا يشكلون خطراً على المنطقة سورياً وعراقياً، وهو الاعتقاد الذي كان له مبرراته، إذ رفضت هذه العواصم الاستفتاء الذي أجراه البرزاني من أجل الاستقلال في 25 أيلول/سبتمبر 2017 بعد هزيمة داعش في الرقة، واعترضت عليه آنذاك طهران أيضاً، ليكون موقف أنقرة المفاجأة الكبرى بالنسبة إلى البرزاني، الذي كان يعقد آمالاً كبيرة على حليفه إردوغان الذي التقى به في إسطنبول قبل الاستفتاء بشهرين، وكان علم كردستان العراق يرفرف خلفه.
وكان هذا الموقف التركيّ سبباً لفترة من الفتور الّذي خيَّم على العلاقات بين إردوغان والبرزاني، اللذين عادا إلى تحالفهما التقليدي قبيل الاجتياح العسكري التركي للشمال العراقي بداية الصيف الماضي، إذ سيطرت القوات التركية على العديد من المواقع الاستراتيجية القريبة من جبال قنديل الوعرة التي تتواجد فيها مخيمات ومراكز حزب العمال الكردستاني.
وقد أقام الجيش التركي في هذه المواقع التي تقع ضمن مناطق البرزاني حوالى 15 قاعدة، إضافةً إلى عدد مماثل من القواعد التي تتواجد فيها القوات التركية منذ العام 1991، عندما جاءت قوات المطرقة الأميركيّة إلى تركيا لحماية كرد العراق من أيّ عمل عسكري عراقي بعد هزيمة الكويت. وبقيت هذه القوات في المنطقة حتى الاحتلال الأميركي للعراق في آذار/مارس 2003، والذي أيّده إردوغان عبر فتح المجال الجوي التركي أمام الطائرات والصواريخ الأميركية التي أطلقتها السفن الأميركية من شرق الأبيض المتوسط.
ويرى البعض في الفراغ السياسي والأمني في العراق وشماله عموماً سبباً رئيسياً في مجمل هذه التطورات، وخصوصاً التدخل التركي في المنطقة، بحجة تواجد مسلّحي الكردستاني والغالبية الساحقة منهم الآن في الشمال السوري في صفوف ما يُسمى "وحدات حماية الشعب الكردية"، التي أصبحت قوة لا يستهان بها، بسبب مختلف أنواع الدعم الذي تحظى به من العديد من الدول بشكل مباشر أو غير مباشر. وتأتي أميركا في مقدمة هذه الدول، ومعها فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، من دون أن نتجاهل الإمارات والسعودية ومصر التي تسعى لتضييق الحصار على أنقرة.
ويبقى المستفيد الأكبر من كلّ هذه التناقضات هو "إسرائيل" التي أولت منذ قيامها كرد المنطقة اهتماماً مميزاً عبر علاقاتها مع عائلة البرزاني، والآن مع قسد بشقيه الكردي والعربي. ودفع كل ذلك أنقرة للعودة إلى تحالفاتها التقليدية مع كرد العراق، وهو ما بدأته في الخمسينيات بسبب التواصل العشائري بين كرد تركيا وكرد العراق من الكرمان، وهم منافسون أو أعداء تقليديون لكرد الصوران وزعيمهم السابق الرئيس الراحل جلال الطالباني، الذي شهدت علاقاته مع البرزاني مداً وجزراً وفق مزاج الأخير في التحالف مع أنقرة.
وكان كلّ ذلك سبباً كافياً لاقتتال شبه دائم بين الطّرفين، إذ كانت تركيا دائماً إلى جانب البرزاني ضد الطالباني، وكما هو عليه الحال الآن، على الرغم من مساعي الطالباني ومن جاء من بعده لتحسين العلاقة مع الرئيس إردوغان. ويعرف الجميع أنه يرجح العلاقة مع جماعة البرزاني لأسباب عديدة، أهمها أنهما يشبهان بعضهما البعض في الفهم والتطبيق للعديد من المفاهيم الفكرية والسياسية والاقتصادية.
وقد قاتلت قوات البشمركة الموالية للبرزاني إلى جانب الجيش التركي ضد مسلحي الكردستاني في العام 1997، وبعدها عدة مرات، وهو ما يريد له إردوغان أن يتكرر الآن، وبشكل فعال وسريع، مقابل دعم مالي من أنقرة، ما دام يعاني أزمات جدية في علاقاته مع الحكومة المركزية ومع السليمانية، عاصمة الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان الطالباني يتزعمه. وكان العديد من مفاهيمه وأهدافه - الطالباني - قريباً من حزب العمال الكردستاني بزعامة "اليساري" عبد الله أوجلان.
وقد سعى الطالباني كثيراً لإخراجه من السجن بعد مصالحته مع الدولة التركية، التي رجحت العلاقة مع البرزاني والامتداد العشائري له داخل تركيا، فقد وظفت أنقرة في التسعينيات حوالى 150 ألفاً من رجال هذه العشائر تحت اسم "حراس القرى"، الذين قاتلوا إلى جانب الجيش التركي، وتراجع عددهم الآن إلى 60 ألفاً يتقاضون رواتب رسمية من الدولة التركية.
ويبدو واضحاً أنَّ الوضع العراقي الداخلي وأزمة كورونا وقضايا الفساد وحسابات العواصم الإقليمية والدولية الخاصة بالعراق، بسبب موقعه الاستراتيجي المجاور لسوريا وإيران وتركيا والخليج، لن يساعد على حسم أي من مشاكله الحالية. وسيدفع ذلك الطرفان، أي مسعود البرزاني وأتباع عبد الله أوجلان في سوريا وتركيا، إلى ترسيخ مواقعهما وتحقيق المزيد من المزايا السياسية والعسكرية والجغرافية والشعبية بعد صعود الشعور القومي الكردي المتضامن مع كرد سوريا بسبب الدعم الأميركي والدولي لهم.
وستدفع هذه المزايا قيادات العمال الكردستاني التركي والاتحاد الديموقراطي الكردستاني السوري إلى الاستمرار في سياساتهم لتضييق الحصار على البرزاني، لأنهم يعرفون أنهم الأقوى الآن بسبب الوضع الاقتصادي والمالي المتدهور في أربيل، وعلاقاتها السيئة مع السليمانية، بل وحتى مع بغداد، وفيها الرئيس برهم صالح، وهو من جماعة الطالباني.
وترشح مثل هذه المعطيات وغيرها المرحلة القريبة القادمة إلى مزيد من التوتر في الشمال العراقي، مع استمرار التدخل العسكري والاستخباراتي التركي، عبر التنسيق والتعاون مع البرزاني الذي تريد له أنقرة أن يسخّر كل إمكانياته للقتال ضد الكردستاني التركي.
بدوره، يرى الكردستاني في المعطيات الإقليمية والدولية فرصته الثمينة لدعم وترسيخ الانتصارات والنجاحات التي حققها خلال السنوات الخمس الأخيرة، بفضل دعم الرئيس ترامب، والآن ربما الرئيس بايدن، وهو أكثر عداء لإردوغان، ما سيدفع الأخير إلى التحرك بسرعة لسدّ الطريق على أي مفاجآت لا تحمد عواقبها بالنسبة إلى أنقرة، التي لن تتردد في اتخاذ أي موقف عملي وسريع ضد الكردستاني التركي وفرعه السوري؛ وحدات حماية الشعب الكردية. ويحتاج ذلك إلى داعم كردي حتى يستمر الكرد في قتل بعضهم البعض، وهو ما اعتادوه في تركيا والعراق وإيران، والآن في سوريا.
كما أنهم اعتادوا أن يكونوا ورقة تساوم بها هذه الدول الأربع بعضها البعض، إذ كانت هذه الدول تعادي أو تحارب كردها فيما تدعم كرد جيرانها، كما هو الحال عليه الآن بالنسبة إلى تركيا. ولا ننسى أنَّها وضعت جميع قيادات حزب الشعوب الديموقراطي، وهو الجناح السياسي للعمال الكردستاني، في السجون، بعيداً من اهتمامات الغرب الذي تجاهل، بل نسي قضية زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان الموجود في السجن منذ شباط/فبراير 1998.
لقد أثبتت السّنوات الماضية بعد "سايكس بيكو" و"سيفر" أنَّ ما يهم الغرب هو مصالحه فقط، بعيداً من مقولات الديموقراطية وحقوق الإنسان، ما دام الكرد عموماً لم يتجاوزوا خلافاتهم، فظلّوا وسيظلّون ورقة في مهبّ الرياح الإقليمية والدولية، والأهم التركية، باعتبار أنَّها الآن، وتاريخياً، الطرف الأهم في هذه المعادلة الصعبة والمعقدة، وبقاؤها على هذا الحال سببه الكرد أنفسهم!
*باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي