العراق: محاولة للإصلاح الاقتصادي
2020-10-20 20:56:50
وليد خدوري
بادرت حكومة مصطفى الكاظمي بإطلاق محاولة للإصلاح الاقتصادي، في فترة تدهور أسعار النفط الخام على ضوء إغلاقات «كوفيد- 19» التي قلصت الطلب على النفط، ومن ثم تدهور الأسعار عن معدلاتها التي تراوحت بين حوالي 60 و70 دولارا، قبل تفشي «كوفيد- 19»، لتستقر منذ بدء فصل الصيف على معدل يتراوح ما بين 40 و45 دولارا لبرميل «برنت». أدى هذا التدهور السعري للنفط الذي يشكل نحو 90 في المائة من موارد الموازنة العراقية إلى عدم التزام الحكومة بدفع معاشات الموظفين والمتقاعدين لشهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، نظرا لعدم توفر الأموال في الخزينة.
يقدر عدد الذين لم يتسلموا معاشاتهم للشهر الماضي بنحو 6 ملايين نسمة، الأمر الذي خلق أزمة في البلاد، بالذات لأن المؤشرات تدل على صعوبة تحسن أسعار النفط في المستقبل المنظور؛ الأمر الذي يعني احتمال حجب الرواتب لهذا العدد الضخم من السكان وعائلاتهم مرة أخرى قبل نهاية العام.
شكّل مجلس الوزراء العراقي خلية طوارئ للإصلاح المالي في 22 مايو (أيار) 2020. اجتمعت اللجنة أكثر من 20 مرة ما بين شهري مايو وأغسطس (آب). ترأس اللجنة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وأدار اجتماعاتها الخبير الاقتصادي وزير المالية الدكتور علي عبد الأمير علاوي. وأصدرت اللجنة «الورقة البيضاء» التي قدمت الحكومة من خلالها توصياتها الهادفة «بلورة أساس مشترك يمكن الاتفاق عليه وإقراره، يتبعه تقديم التشريعات الضرورية والإجراءات التنفيذية بموجبها». وذلك بعد احتمال إدخال بعض التعديلات عليها، ومن ثم تبني الورقة كسياسة اقتصادية مستقبلية.
ألقت «الورقة» عبء الخلل الاقتصادي في البلاد منذ احتلال 2003 على القطاع العام، وعلى مجموع الشركات الصناعية التي تم تأسيسها في الفترة ما قبل الاحتلال. وشرحت «الورقة» بإسهاب الآثار السلبية لهذه الشركات، وحملتها مسؤولية عدم الكفاءة وعدم تنافسية أسعارها، وعن تكديس اليد العاملة فيها دون الحاجة لهذا العدد من العمال والموظفين.
هذه عوامل سهل اتهام القطاع العام بها. ومن الواضح هناك شوائب في المصانع الحكومية؛ لكن عند سرد مساوئ الصناعات الحكومية كان من الضرورة الإشارة إلى الفساد والمحاصصات الطائفية. كان يتوجب أيضا سرد ضخامة عمليات التهريب عبر الحدود، ومدى الأضرار من نفوذ الطبقة السياسية في تعيين المحسوبين جزافاً، هذا طبعا ناهيك عن «الفضائيين» الذين يقبضون المعاشات دون الدوام أو تنفيذ أي عمل، ويتسلم المسؤول السياسي الذي عينهم جزءا من راتبهم. وقد شاعت - كما هو معروف - ظاهرة «الفضائيين» في عهد نوري المالكي.
ركزت «الورقة» على عدم إمكانية منافسة شركات القطاع العام، وهذا أمر فيه بعض الصحة؛ لكن غضت «الورقة» عن سرد بعض أسباب هذه المشكلة خلال العقدين الماضيين. ومن ثم أعطت الانطباع بأنها تدافع عن سياسات حكومات عهد الاحتلال، رغم السياسات الاقتصادية الخاطئة لحكومات فترة الاحتلال، كما صرح بذلك بعض المسؤولين عن إعداد «الورقة».
هذا النوع من النقاش أعطى الانطباع بأن «الورقة» هدفت الهجوم على السياسات الاقتصادية للنظام السابق، وغض النظر عن سياسات وأخطاء حكومات ما بعد 2003. طبعا، هذا رغم محاولة «الورقة» طرح سياسة اقتصادية جديدة للبلاد.
من نافل القول إن السياسات الاقتصادية لحكومات ما بعد 2003 اعتمدت أساسا على الفساد والمحاصصات الطائفية، كما لم توفر الحاجات الأساسية للشعب العراقي، كان من أجل طرح سياسة اقتصادية مستقبلية توفر مراجعة وافية ومتوازنة للاقتصاد العراقي المعاصر. هذا لا يعني غض النظر عن المشكلات التي لحقت بالقطاع العام في عهد النظام السابق؛ لكن هذا لا يعني بتاتا أن سبب فشل الاقتصاد العراقي حاليا هو إدارة مصانع القطاع العام فقط، هذه المصانع والشركات التي تم نهبها وسرقتها خلال الأيام الأولى للاحتلال، ناهيك عن فساد الفترة اللاحقة. كان من الممكن - على الأقل - طرح أفكار جديدة حول إمكانية الاستفادة من هذه الاستثمارات الضخمة التي أفادت البلاد فترة طويلة. طبعا هناك إمكانية تخصيص هذه المصانع من خلال طرح أسهمها في البورصة، أو إعادة تشكيل ملكيتها كشركات مشتركة ما بين القطاعين العام والخاص. لكن لكي يتم هذا بنجاح يجب أن تكون هناك ثقة لدى المستثمر العراقي بصحة ونظافة الأداء، بعيدا عن جو الفساد والمحاصصة الطائفية.
من الجدير بالذكر، أن «الورقة» دافعت عن دور القطاع الخاص والشركات الخاصة؛ لكنها لم تذكر من قريب أو بعيد الدور المخرب لحيتان الفساد والاحتكارات الذين أرهبوا القطاع الخاص خلال العقدين الماضيين، ومنعوا من تأسيس الشركات الصناعية المنتجة، أو نموها بشكل طبيعي واقتصادي مستدام. كما لم تذكر «الورقة» أهمية بروز القطاع المشترك، والدور الذي يمكن أن يلعبه في اقتصادات البلاد.
وإذا كان هناك من خلل في اقتصاد العراق خلال العقدين الماضيين، فهو إخفاق الحكومات المتتالية في أخذ المبادرات لدعم تأسيس «قطاع اقتصادي منتج»؛ خاص أو عام. نحن لا نتكلم هنا عن شركات الاستيراد والتصدير العديدة التي تم تأسيسها.
ولم تتوفق «الورقة» أيضا في مناقشة أزمة الكهرباء في البلاد. فقد ألقت عبء المشكلة برمتها على المستهلك، والسعر الرخيص نسبيا الذي يدفعه المستهلك العراقي. ورغم صحة القول إن فاتورة الكهرباء لا تزال منخفضة في العراق؛ فإن هذا ليس عذرا لانقطاع الكهرباء عدة ساعات يوميا لسنوات متتالية. لقد خصصت الموازنات السنوية المتتالية منذ 2003 حوالي 55 مليار دولار لزيادة الطاقة الكهربائية. فما الذي حصل لهذه الأموال الطائلة؟ وهنا تبرز مرة أخرى مشكلة الفساد التي أغفلتها «الورقة».
كما تبرز مشكلة إخفاق الدولة بعد 2003 في تخطيط وتنفيذ المشروعات الأساسية للبلاد. وهنا نذكر أيضا بإخفاق تنفيذ مشروعات تزويد البصرة بالمياه الصالحة للشرب. فالتقاعس هنا أيضا مرده الإهمال والفساد وقلة الخبرة عند المسؤولين. وينطبق الأمر أيضا على موضوع المولدات الكهربائية. وأغفلت «الورقة» دور أصحاب المولدات؛ حيث إن عددا كبيرا منهم من أعضاء البرلمان، وكيف أن بعض نواب الشعب كان يضغط على مؤسسة الكهرباء لقطع الطاقة الكهربائية عن منطقتهم، لكي يضطر المستهلك لاستعمال المولدات التي يملكها النواب. ولم تذكر «الورقة» أيضا لماذا ظاهرة المولدات الخاصة ظاهرة جديدة في العراق برزت ما بعد عام 2003؟
اعتبرت «الورقة» أن استمرار اعتماد العراق على الريع النفطي باعتباره المورد المالي الأساسي، أو التخطيط بالاعتماد على ارتفاع سعر النفط، هما أمران لهما محاذيرهما وخطورتهما. وهذا أمر صحيح، وتجب إعارته الأهمية اللازمة. لكن لم نجد في «الورقة» شرحا وافيا لما قامت به حكومات قبل وما بعد 2003 في مجال تقليص الاعتماد على النفط، وزيادة دور الطاقات البديلة المستدامة أو تطوير قطاع الغاز.