صناديق الاقتراع ومرآة الأمل: الكورد ومسار العراق نحو الشراكة الحقيقية
2025-10-27 18:46:35
عربيةDraw:
تُعَدّ الانتخابات العراقية المقبلة محطةً سياسية حاسمة، لا للعراق وحده، بل لإقليم كردستان أيضًا، لما تحمله من دلالات عميقة تتجاوز صناديق الاقتراع إلى عمق العلاقة بين المكوّنات العراقية وطبيعة النظام السياسي الذي نشأ بعد عام 2003. فالمسألة الكوردية في العراق لم تكن يومًا قضية هوية فحسب، بل قضية شراكة سياسية وعدالة في توزيع السلطة والثروة وصياغة القرار الوطني.
منذ أول انتخابات بعد سقوط النظام السابق، خاض الكورد التجربة الديمقراطية بوصفها فرصة لتثبيت موقعهم كشركاء أساسيين في بناء الدولة العراقية الجديدة. غير أن السنوات الماضية كشفت هشاشة هذه الشراكة بسبب غياب الثقة السياسية وتزايد النزعات المركزية في بغداد، ما جعل العلاقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية تتأرجح بين التعاون والتصادم. وفي كل دورة انتخابية، يجد الكورد أنفسهم أمام سؤال جوهري: هل ستُفرز صناديق الاقتراع عراقًا فيدراليًا حقيقيًا، أم ستعيد إنتاج مركزية القرار التي تقوّض روح الدستور؟
الآمال الكردية اليوم تتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة، لتتمحور حول تثبيت مبادئ الشراكة المتكافئة في الحكم الاتحادي، واحترام خصوصية الإقليم السياسية والاقتصادية، وضمان حقوقه الدستورية في النفط والميزانية والإدارة الذاتية. فإقليم كوردستان، رغم كل التحديات، قدّم نموذجًا متقدّمًا في الأمن والإعمار والاستقرار مقارنة ببقية مناطق العراق، وهو ما يمنح الكورد ثقةً أكبر في المطالبة بدور أوسع في صنع القرار الوطني.
من جهة أخرى، تمثل الانتخابات بالنسبة للكورد لحظة اختبار لموقعهم السياسي داخل العراق المتغيّر، خصوصًا في ظل الانقسام داخل الساحة الشيعية، والتراجع النسبي للقوى السنية، والتأثير المتزايد للتيارات الإقليمية والدولية. في هذا السياق، يسعى القادة الكورد إلى توظيف التوازنات القائمة بما يضمن حماية مكتسبات الإقليم وإعادة تعريف دورهم كشركاء في رسم مستقبل العراق، لا كأطراف ثانوية ضمن معادلة السلطة المركزية.
الزعيم الكوردي نيجيرفان بارزاني يُعَدّ اليوم من أبرز الشخصيات التي تدرك عمق هذه المرحلة وتعقيداتها. فهو يدعو باستمرار إلى اعتماد لغة الحوار والتفاهم بدلاً من الصراع، وإلى جعل العملية الانتخابية فرصة لتجديد الثقة بين بغداد وأربيل. وقد أكّد مرارًا أن المشاركة الكوردية الفاعلة في الانتخابات ليست دفاعًا عن الإقليم فقط، بل عن فكرة العراق التعددي، العراق الذي يتّسع لجميع مكوّناته دون تمييز. هذه الرؤية التي يتبنّاها نيجيرفان بارزاني تعبّر عن فلسفة سياسية تقوم على الواقعية والعقلانية، لا على العواطف والشعارات، وتضع السلام والشراكة في صميم المشروع الكوردي داخل العراق.
لكنّ الطريق أمام الكورد ليس سهلاً. فالمشهد السياسي العراقي يعاني من تعقيدات بنيوية: ضعف الأحزاب الوطنية العابرة للطوائف، تغلغل المصالح الإقليمية، الانقسام داخل النخب الكردية نفسها، وتدهور ثقة المواطن بالعملية السياسية برمّتها. ومع ذلك، فإن المشاركة الكوردية الواسعة في الانتخابات المقبلة تُعَدّ رسالة سياسية واضحة مفادها أن الإقليم لا يزال متمسّكًا بخيار الشراكة والديمقراطية، وأنه لن يسمح بتحويل الخلافات السياسية إلى قطيعة وطنية.
الآمال الكوردية ليست مجرد طموحات قومية، بل مشروع وطني يسعى إلى ترسيخ دولة اتحادية عادلة تقوم على مبدأ الموازنة بين الحقوق والواجبات. فالكورد يدركون أن قوة الإقليم لن تتحقق بانعزاله عن بغداد، كما أن استقرار العراق لن يتحقق بتهميش كوردستان. المعادلة المثالية تكمن في الاعتراف المتبادل بالمصالح والخصوصيات، وفي بناء نظام سياسي يتجاوز ثنائية المركز والإقليم نحو عراق المواطنة والدستور.
في النهاية، يمكن القول إن الانتخابات العراقية القادمة ستكون اختبارًا حقيقيًا لنضج التجربة الديمقراطية في البلاد. فإمّا أن تُجدّد الثقة بين الشركاء في الوطن، أو تُعمّق الانقسام بين المكوّنات. والكورد، الذين خبروا مرارة التهميش وعظمة النضال، يعلّقون آمالهم على عراقٍ جديدٍ يتّسع للجميع، عراقٍ لا يُقاس بالعدد بل بالقيمة، ولا بالهوية المذهبية بل بالانتماء الإنساني.
إنّ حلم الكورد اليوم ليس الانفصال، بل الاعتراف؛ ليس القوة، بل العدالة؛ وليس الهيمنة، بل المشاركة. تلك هي المعادلة التي إن تحققت، فسيولد من رحم الانتخابات عراقٌ مختلف — عراقٌ يستمد استقراره من تنوّعه، ووحدته من عدالته، ومستقبله من شجاعة أبنائه في إعادة تعريف الوطن!