معركة الدولار والدينار العراقي.. كيف ستضع أوزارها
2023-01-31 18:13:16
عربية Draw :
أتخذ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال الأيام القلائل الماضية جملة من القرارات والإجراءات للحد من ارتفاع قيمة الدولار الأميركي مقابل الدينار العراقي في الأسواق العراقية، ومنع تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلد نتيجة ذلك، وما يمكن أن يترتب على ذلك الارتفاع من تبعات سياسية تقوض الاستقرار وتعيد مشهد الارتباك والاضطراب الذي ألقى بظلاله الثقيلة على الشارع العراقي في الجزء الأكبر من العام الماضي.
ومن بين القرارات والإجراءات التي اتخذها السوداني، إعفاء محافظ البنك المركزي العراقي مصطفى غالب مخيف وتعيين محافظ البنك السابق علي العلاق، وإحالة مدير عام البنك العراقي للتجارة (TBI) الذي يعد أحد أكبر البنوك الحكومية، سالم الجلبي على التقاعد، وتعيين الخبير المالي بلال الحمداني بدلا عنه. إلى جانب جملة إجراءات أقرها مجلس الوزراء بالإجماع، تتعلق بتسهيل وتسريع التعاملات المصرفية، وزيادة عدد منافذ بيع العملة الصعبة (الدولار) للمواطنين وبأسعار مدعومة، وتقديم التسهيلات المالية والمصرفية للتجار، لاسيما الصغار منهم، وتقليص الحلقات الإدارية ذات الطابع البيروقراطي الرتيب، التي تتيح عمليات التلاعب والفساد والاحتكار. فضلا عن ذلك فإن جهاز الأمن الاقتصادي في وزارة الداخلية شن قبل عدة أيام حملات في البعض من أسواق بيع وتداول العملات (البورصات) في العاصمة بغداد، واعتقل عددا من المضاربين والمتلاعبين بالأسعار.
وبعدما كان الدولار قد ارتفع مقابل الدينار إلى مستويات قياسية خلال فترة زمنية قصيرة جدا، ليستتبعه ارتفاع واضح في أسعار السلع والبضائع الأساسية المختلفة، وخصوصا ذات الاستهلاك اليومي، فإن القرارات والإجراءات المتخذة ساهمت بتراجعه بشكل طفيف، مع وعود وتعهدات قطعها محافظ البنك المركزي الجديد بإعادة خفض قيمة الدولار خلال وقت قصير، وبالتالي عودة الاستقرار إلى السوق. ولكن هل انتهت القصة عند هذا الحد؟ بالتأكيد ليس الأمر كذلك، لأن هناك أسبابا وعوامل وظروفا مختلفة أدت إلى ذلك الارتباك، دون استبعاد فرضية النوايا المبيتة والأجندات المخطط لها.
ومن الطبيعي أن تتوجه بعض أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة، لأنها ومنذ الإطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، باتت تتحكم بمختلف مفاصل الدولة العراقية، وخصوصا المالية والاقتصادية منها. ولعل أبرز وأوضح دليل على ذلك، هو أنه منذ عشرين عاما، تودع عائدات النفط العراقي في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ضمن حساب خاص أطلق عليه صندوق تنمية العراق (DFI) وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي المرقم 1483 والصادر في الثاني والعشرين من مايو 2003، تدفع منه التعويضات المستحقة لدولة الكويت، وعموم التحويلات والإنفاقات المالية منه تخضع لإشراف ورقابة الاحتياطي الفيدرالي.
وقبل حوالي عشرة أعوام أو أكثر، ارتفعت أصوات شعبية وبرلمانية تطالب بتحرير الأموال العراقية وإنهاء الهيمنة الأميركية عليها، إلا أن جملة من التجاذبات والإشكاليات السياسية والفنية حالت دون ذلك، رغم إعلان الرئيس الأميركي الأسبق نيته رفع الحصانة عن صندوق تنمية العراق في ذلك الحين.
ومثلما ظل الملف الأمني العراقي خاضعا ومرتهنا لحسابات واشنطن السياسية، فإن الملف المالي هو الآخر بقي كذلك، ولم تكن الأخيرة بعيدة عن الصعود المفاجئ للدولار، وهذا ما كشفه بعض البرلمانيين وخبراء المال والاقتصاد. إذ أكد النائب مصطفى سند أواخر الشهر الماضي أن “صعود الدولار هذه الأيام هو بسبب إيقاف تحويل استحقاق العراق من الدولار من قبل الفيدرالي الأميركي لغرض الابتزاز السياسي والتفاهم”. هذا في الوقت الذي أصدر فيه البنك المركزي قرارا يقضي بمنع أربعة بنوك أهلية من التعامل بالدولار لأغراض تدقيقية، وهي مصرف الأنصاري الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف القابض الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف آسيا العراق الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف الشرق الأوسط العراقي للاستثمار.
وتذهب أوساط مطلعة إلى أن القرار المذكور جاء بضغط وإيعاز من الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، والسبب الحقيقي هو وجود معلومات عن قيام البنوك الأربعة المشار إليها بتحويل مبالغ مالية إلى جهات وأشخاص مدرجين في القوائم الأميركية السوداء المشمولة بالعقوبات، وهذه الجهات إما إيرانية أو أنها مرتبطة بإيران.
في هذا السياق، حاولت السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوسكي التخفيف من وقع وحدّة الأنباء المتداولة عن دور حكومة بلادها في تقلبات وتذبذب الأسعار بين الدولار والدينار العراقي، قائلة في آخر تصريح لها “إن الولايات المتحدة لا تضع ولا تحدد سعر التصريف بين الدولار والدينار، وإنها لم تفرض عقوبات جديدة على بنك في العراق، بل تواصل آلية استغرقت عدة سنوات لتقوية القطاع المصرفي العراقي لمساعدته على الامتثال للنظام المصرفي العالمي، وضمان منع استعمال النظام المصرفي لغسيل أموال الشعب العراقي وتهريبها إلى خارج العراق”. وتضيف رومانوسكي “إنّ هذه الإجراءات بدأت قبل سنتين بتطبيق تدريجي من قبل البنوك العراقية، وفق اتفاق بين البنك الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي العراقي، وأن تلك الإجراءات مصممة لمنع وتقييد غسيل الأموال، وأن تعليقها أو تأجيلها يؤدي إلى العودة بالمنظومة إلى الوراء”، وتؤكد “ركزنا على ملف الفساد في العراق، وما حصل كان مصادفة مع تسلم السوداني للسلطة”.
ولا شك أن كلام السفيرة الأميركية واضح إلى حد كبير، وهو إقرار واعتراف صريح بهيمنة وسطوة واشنطن على الملف المالي العراقي، وإلا ما هو الغطاء الشرعي والقانوني الذي يتيح لها التدخل وفرض السياقات والإجراءات التي تراها وتقرر ما الذي تطبقها فيه؟
وقد كان رئيس الوزراء العراقي الأسبق وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي واضحا جدا، حينما أكد في تصريحات إعلامية أن “أزمة الدولار مرتبطة بمخالفات، منها التهريب والتلاعب من قبل بعض البنوك والتجار، وأن الحل الوحيد للأزمة هو التفاهم مع الجانب الأميركي.. إذ أن الولايات المتحدة تستخدم الدولار كسلاح وهي تراقب الوضع في العراق”.
في ذات الوقت فإن وسائل إعلام غربية نقلت عن مسؤولين أميركان تأكيدهم “إن النظام المصرفي المزمع العمل به من قبل البنك الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي العراقي، يهدف إلى الحد من استخدام النظام المصرفي العراقي لتهريب الدولارات إلى طهران ودمشق وملاذات غسيل الأموال في أنحاء الشرق الأوسط”.وإذا عدنا قليلا إلى الوراء، نجد أن وزارة الخزانة الأميركية فرضت قبل عدة أعوام حزمة عقوبات على بنوك أهلية عراقية تحت ذريعة تقديمها تسهيلات للحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، علما أن بعض أصحاب ومدراء تلك البنوك يرتبطون بعلاقات جيدة مع الأوساط والمحافل السياسية الأميركية.
والمفارقة هنا، أن واشنطن التي تزعم أنها تريد مساعدة العراق لوضع حد لعمليات التهريب والفساد عبر بناء نظام مصرفي رصين، كان لها الدور الأكبر في تبديد المليارات من الدولارات من أموال العراق، حيث أنها كانت تعلم جيدا الجهات التي تقف وراء ذلك، وتعلم جيدا حركة الأموال المنهوبة وطرق غسيلها، إلا أنها التزمت الصمت ولم تحرك ساكنا، لأن ذلك لم يكن يتعارض مع حساباتها ومصالحها من جانب، ومن جانب آخر لا يعود بالنفع على خصومها وأعدائها في المنطقة.
وبينما لا يحتمل كلام السفيرة الأميركية الكثير من التأويل والتفسير بشأن تورط واشنطن في الارتباك الكبير الذي تعرض له العراق مؤخرا جراء ارتفاع قيمة الدولار، فإن ادعائها بأن تزامن تفعيل إجراءات التدقيق والمراقبة المالية مع الفترة الأولى لتولي السوداني رئاسة الوزراء كان محض مصادفة، لا يمكن له، أي الادعاء، الصمود أمام قراءات ومعطيات وحقائق تذهب إلى أن الإدارة الأميركية غير مرتاحة لبعض توجهات وسياسات وقرارات السوداني، رغم الإعلان عن دعمها ومساندتها له، لذلك فهي تحاول إشغاله بملفات جانبية بهدف تشديد الضغوط الداخلية عليه. وكما أكد برلمانيون عراقيون أن “واشنطن تحاول ابتزاز السوداني من خلال العمل على إسقاط حكومته باستخدام أزمة الدولار في حال لم يتعاون مع الأهداف الأميركية في العراق، وهي تقول له باختصار إننا سنسقط الحكومة في حال لم تعمل معنا ضد إيران”. هذا في الوقت الذي يرى فيه بعض الساسة وأصحاب الرأي أن “السوداني يواجه الآن تحديا كبيرا في الحفاظ على التوازن في العلاقات العراقية مع كل من واشنطن وطهران دون أن يتخذ جانبا ضد آخر، وأن هذه المهمة صعبة جدا وتتطلب من السوداني أن يسير على الحبل”!
وحتى الآن يبدو أن رئيس الوزراء العراقي يسير في الاتجاه الصحيح، وأن قراراته وخطواته وإجراءاته تنسجم من حيث واقعيتها وأولوياتها مع طبيعة الأزمة والسبل الكفيلة لحلها ومعالجتها، وقد لا تستطيع الإدارة الأميركية أن تفرض وتقرر كل ما تريده وترغب فيه، لأن هناك رأيا عاما يمكن أن يتحرك بشكل ما، وهناك ثقلا سياسيا كبيرا داعما للسوداني يتمثل بالإطار التنسيقي الشيعي، وعلى نطاق أوسع تحالف إدارة الدولة، الذي يضم قوى رئيسية من المكونين السني والكردي، التي وإن كانت ترتبط بعلاقات جيدة مع واشنطن، إلا أنه ليس من مصلحتها أن تختلط الأوراق وتضطرب الأوضاع، خصوصا وأن التقاطعات والخلافات في داخل هذه المكونات تجعل قواها تحرص على السير والتحرك باتجاه تهدئة الأمور وحلحلة الأزمات واحتواء التوترات، فليس هناك من يتمنى، وتحديدا المشاركون في الحكومة، العودة إلى منطق التصعيد والتأزيم من جديد، سواء تعلق الأمر بملفات الاقتصاد أو سواها من الملفات الأخرى.