عندما أصرّت بغداد على اتفاق يلزم الأكراد بالولاء لصدام حسين
2021-03-22 19:21:53
الحصاد DRAW:
كامران قره داغي - كاتب كردي عراقي
"قدمت لبارزاني إيجازاً بنتائج محادثاتنا في بغداد وقلت له إن العراقيين كانوا إيجابيين وعبروا بأكثر من طريقة عن استعدادهم لمنح الكرد حقوقهم وأعتقد أن من المفيد أن يذهب بارزاني بنفسه إلى بغداد."
بعد قرار قيادة الجبهة الكردستانية التفاوض مع الحكومة العراقية وتشكيل الوفد الرسمي برئاسة جلال طالباني، توجه أعضاؤه الأربعة إلى بغداد. يقول عضو الوفد نيتشيرفان بارزاني إن طالباني “ظلّ طوال الطريق يكرر أن لا آفاق للكرد ولن يساعدنا أحد، لذا ليس أمامنا سوى التفاوض مع بغداد. وفي بغداد تحدث بجدية صارمة مع المسؤولين العراقيين. قال لهم إننا كنا نريد دائماً حلاً سلمياً، لكنكم تعاملتم معنا بطريقة بشعة وارتكبتم أعمالاً غير إنسانية ضدنا. لكن فاته ذكر أمور عدة في مداخلته الأولى. وجاء دور سامي عبد الرحمن فعرض أفكاره بتسلسل منظم”. يضيف بارزاني أن اللقاء الأول كان مع عزّة الدوري رئيس الوفد العراقي. وكان أول سؤال وجهه إلينا: لماذا لم يأت مسعود بارزاني معكم؟ طالباني رد بصوت خافت أقرب إلى الهمس قائلاً إن السبب يكمن في ما حدث لأسرته التي قُتل 17 من أفرادها القريبين له مباشرة، فيما غُيب حوالى 8 آلاف من البارزانيين من دون معرفة مصيرهم. أجابه الدوري أنه لا يلومه. هنا تدخلت وقلت للدوري إن هذه ليست المسألة ولا تتعلق بموقفه الشخصي. إنه يعمل من أجل الكرد وسيأتي إلى بغداد حالما يعتقد بأنكم مستعدون لحل المسألة الكردية، لكننا حالياً لسنا مقتنعين بذلك لذا إنني هنا كي أفهم موقفكم”. على صعيد ذي صلة بالتفاوض، أعرب بارزاني عن رأيه في موقف الوفد الكردي قائلاً: “في بغداد أظهرنا أن موقفنا كان ضعيفا فاستفاد الطرف العراقي من ذلك. فهم أدركوا أننا كنا يائسين ولا أمل لدينا وعندما كنا نختلي وحدنا خلال فترات الاستراحة كنا نقول لبعضنا أن لا خيار آخر أمامنا. وعندما اكتشف العراقيون ضعفنا فانهم لم يقدموا لنا سوى القليل قائلين انه يتعين اجراء جولة ثانية من التفاوض مع مسعود بارزاني ولا بد من جولات عدة بعد ذلك” (نيتشيرفان بارزاني – أربيل في 22/5/1993).
بارزاني لم يكن راغبا في ان يذهب إلى بغداد. لكن بقية الزعماء الكرد بمن فيهم طالباني حثوه على الذهاب.
لكن وفد طالباني لم يكن الأول الذي ذهب إلى بغداد. في السياق كان نوشيروان مصطفى قد أوضح في لقاء معه أنه في البداية آثر العرض الذي جاء به مكرم طالباني وبالاتفاق بينه وبين مسعود بارزاني: “أرسلنا إلى بغداد مندوباً هو الضابط من أهل السليمانية دارا توفيق آغا، اقتصرت مهمته على نقل رسالة فقط إلى الطرف العراقي. وبعد عودته إلى كردستان أرسلنا وفداً تألف من فريدون عبد القادر وعمر فتاح عن الاتحاد الوطني الكردستاني وفاضل ميراني وآزاد برواري عن الحزب الديموقراطي الكردستاني فالتقوا عزة الدوري وحسين كامل وطه الجزراوي وطارق عزيز، وأبلغوا وفدنا بأنه إذا قدم بارزاني وطالباني معاً إلى بغداد ليلتقيا صدام حسين فإن كل شيء سيُحل في جلسة واحدة. باختصار قالوا لوفدنا إن كل شيء باستثناء الانفصال يمكن بحثه. هكذا هو سلوك البعثيين. بداية يقولون كل شيء سينتهي بسرعة وبعد ذلك يماطلون ويتخلون عن وعودهم”. (نوشيروان مصطفى – لندن في أيلول/ سبتمبر 1993).
يبدو أن وعود الطرف العراقي خلقت لدى الكرد انطباعاً بأن المفاوضات في بغداد يمكن أن تنتهي باتفاق سريع. أعود إلى حديث نيتشيرفان بارزاني الذي ذكر مزيداً من التفاصيل عن اللقاءات بين وفد طالباني والطرف العراقي ولقائهم المفاجئ مع صدام حسين. يقول: “طالباني أخبرهم أن لديه تفويضاً كاملاً لتوقيع أي اتفاق مع بغداد لكن العراقيين أجابو بأنهم يدركون ذلك لكن من الضروري أن يأتي مسعود بارزاني أيضاً. خلال المحادثات مع الوفد العراقي المؤلف من عزة الدوري وعلي حسن المجيد وحسين كامل وصابر الدوري (رئيس الاستخبارات العسكرية) ووفيق السامرائي (نائب الدوري) كان الجميع يتحدثون باحترام معنا لكن عزيز كان خشناً في الحديث وذلك أسلوبه. أما رجلا الاستخبارات فكانا يستمعان فقط من دون الاشتراك في النقاش. وفي كل مرة كان يُثار جدل في موضوع ما كان عزيز فقط يتحدث نيابة عن وفده”. وعن لقاء الوفد الكردي مع صدام أوضح نيشتيرفان بارزاني أن “العراقيين أخبرونا في البداية أننا سنذهب إلى لقاء الدوري. أقلّتنا سيارات إلى موقع شاهدنا فيه عناصر حماية صدام الذين لم يسمحوا لسياراتنا بالاستمرار فنقلونا وحدنا بسيارات أخرى إلى مقر الاستخبارات العسكرية، حيث قالوا لنا إننا سنلتقي الدوري وعندما اسقبلنا أبلغنا أننا سنذهب إلى لقاء صدام في المجلس الوطني. كانت هنالك ثلاث بوابات قبل الوصول إلى بناية المجلس، وأمام كل بوابة كان سائق السيارة يرفع يده بطريقة خاصة فتنفتح. هكذا التقينا صدام. وبعد عودتنا إلى كردستان أبلغت مسعود بارزاني بانهم لن يقرروا اي شيء اذا لم تذهب شخصيا إلى بغداد. صراحة بعد لقاءاتنا مع العراقيين لم نفهم ابدا ماذا كانوا يريدون منا. لذا فان بارزاني لم يكن راغبا في ان يذهب إلى بغداد. لكن بقية الزعماء الكرد بمن فيهم طالباني حثوه على الذهاب. بارزاني أوضح انه يصعب عليه ان يتعامل مع الحكومة العراقية بعد كل ما فعلوه معنا، لكنه إذا لم يذهب فإن الشعب الكردي سيعتبر أن العراق كان مستعداً للاتفاق لكنه، أي بارزاني، لم يجد الشجاعة الكافية ليذهب إلى بغداد لتوقيع الاتفاق”. (نيتشيرفان بارزاني – أربيل في 22/5/1993).
مواقف المفاوضين الكرد
تكشف روايات المفاوضين الكرد ملاحظات وتصورات متنوعة ومختلفة عن سير المفاوضات وسلوك المفاوضين العراقيين والكرد ومواقفهم التي لم تكن متطابقة دائماً. ففيما اعتبر أعضاء في الوفد الكردي أن الطرفين اتفقا على بعض النقاط ولم يتفقوا على غيرها فان نوشيروان مصطفى الذي رافق مسعود بارزاني في الجولة الثانية من المفاوضات أكد في روايته “أننا فشلنا في الاتفاق على كل النقاط الرئيسية، تحديداً كركوك وتعريف منطقة الحكم الذاتي والأمن والاستخبارات والتعددية الحزبية”. أضاف: “قلنا لهم يجب أن تُجرى انتخابات عامة أولاً، ثم يقوم البرلمان بوضع مسودة للدستور العراقي واستفتاء الشعب عليه. لكنهم أصروا على أنهم وضعوا مسودة للدستور بالفعل، ويمكن أن نقترح إضافة فقرة أو فقرتين تتعلق بحقوق الكرد قبل الاستفتاء. قلنا إن هذا غير وارد بالنسبة إلينا لأن دستوركم لا يمكن إصلاحه، إذ أنه يمنح صدام سلطات تعادل سلطات إله. فردوا بأنهم لن يقبلوا بأي شيء يُضعف قبضتهم على السلطة، لأن الثورة بعثية ويجب أن تبقى كذلك. قالوا إن التعددية الحزبية ليست للعراق بل هي للكرد فقط. وكنا عندما نطالب بحقوق للعراقيين كانوا يردون بأننا يجب أن نتحدث عن أنفسنا فقط. وعندما كنا نوافق ونتحدث عن مطالبنا ككرد فقط كانوا يردّون بأننا نتحدث وكأننا لسنا عراقيين”.
أليس من الأفضل أن تتنازلوا لشعبكم بدلاً من أن تتنازلوا للأميركيين والإيرانيين؟
يتابع مصطفى: “من جهتنا أصررنا على أن الأمن يجب أن يكون تحت سيطرة سلطة إدارة الحكم الذاتي لأن الكرد لن يقبلوا أبداً بعودة الأمن العراقي إلى الشمال. لكنهم قالوا إن الأجهزة الأمنية تتبع رئيس الجمهورية ولا يمكن أحداً أن ينتقص من سلطته في هذا المجال. وفي ما يخص كركوك طرحنا عدداً من الخيارات لكنهم رفضوها كلها. وطبعاً في رأيي فإن أي زعيم كردي لن يستطيع البقاء إذا تنازل عن كركوك. من جهتنا ارتكبنا خطأً كبيراً، لأن وفدنا لم يتألف من خبراء. والواقع أن أياً من الخبراء الذين أعدّوا لنا بعض ملفاتنا لم يكن عضواً في وفدنا علماً أن الفرصة لم تسنح لنا لقراءة التقارير أصلاً. وأصر البعثيون على ضرورة ذهاب مسعود إلى بغداد لإظهار النية الحسنة على حد تعبيرهم. كما طلبوا من مام جلال أن يسحبني من وفدنا لأنني كنت في نظرهم متطرفاً وقاتلاً للعرب كما قالوا. أما غلطتنا الثانية فتمثلت في بقائنا في بغداد 42 يوماً متتالية الأمر الذي أتاح للعراقيين كسب الوقت. كانوا يماطلون في المفاوضات في انتظار انسحاب القوات المتحالفة وأحياناً كانوا يكتفون بعقد جلسة واحد لمدة ساعة كل بضعة أيام. أعتقد أننا كنا ضعفاء ومعنوياتنا هابطة ونزوح السكان العالقين في الجبال أثر فينا سلباً. في النهاية عندما قرر بارزاني أننا سنعود إلى كردستان قال له طارق عزيز إن صدام يريدكم أن تعلموا أن اعتمادكم على الأجانب عبث ويذكركم بما فعله الإيرانيون معكم. وتابع أن الأميركيين موجودون هناك (في كردستان) من أجل مصالحهم وأننا سنقبل كل مطالبهم وعندها سيتخلون عنكم. وأيضاً سنعطي الإيرانيين ما يريدون وسيخنقونكم لأنهم يكرهونكم. هنا تدخل عضو الوفد روز نوري شاويس وقال لعزيز: أليس من الأفضل أن تتنازلوا لشعبكم بدلاً من أن تتنازلوا للأميركيين والإيرانيين؟ فرد عزيز: سنعطيهم ما يريديون لكننا لن نعطيكم ابدا ما تريدون وهذه رسالتنا اليكم ويمكنكم أن تبلغوا شعبكم بها”. (نوشيروان مصطفى في لندن – أيلول 1993).
سامي عبد الرحمن الذي كان عضواً في قيادة الجبهة الكردستاني ورئيس “حزب الشعب الكردستاني” وقتها، رافق طالباني في الوفد الأول الذي وصل في 18/4/1991 إلى بغداد، وهو يسلط أضواء على جوانب أخرى من المفاوضات وانطباعاته عن صدام حسين. يقول: “أنا وطالباني وحدنا كنا نتحدث نيابة عن وفدنا. أعتقد أن طالباني أخذته الحماسة فارتكب خطأين خلال حديثه في مؤتمر صحافي عقد بعد لقائنا صدام حسين عندما قال إن الأميركيين يجب أن ينسحبوا عسكرياً وثانياً إننا توصلنا إلى اتفاق مبدئي مع بغداد وهو ما لم يحصل. بداية العراقيون قالوا لنا إن المفاوضات يجب أن تنتهي في 3-4 أيام. لكننا بقينا في بغداد 10 أيام. في النهاية أتذكر أن عزة الدوري قال لنا إنكم ستذهبون وتأتون ثم تذهبون وتأتون. كرر هذه الجملة ثلاث مرات. طالباني انتبه إلى كلام الدوري وقال لنا إن شيئا ما تغير في موقفهم. بدأت أجراس إنذار تدق في آذاننا. أدركنا بأنهم بدأوا يشعرون بالأمان. من جهتنا لم نكن نريد التوصل إلى اتفاق في 3-4 أيام. وعندما التقينا صدام بدا لي أنه كان يائساً وكان نادراً ما يرفع نظره إلينا. كان وجهه مصفراً بشكل غير طبيعي. عموماً في تلك المرحلة كان المفاوضون العراقيون متواضعين جداً ولطيفين معنا”. وتابع: “حين عدنا إلى كردستان كانت القوات الأميركية ما زالت في المنطقة لكن قادتها لم يتعاملوا مع قياداتنا بل كانوا يتحدثون مع رؤساء العشائر والسكان المحليين فقط وينسّقون معهم. قدمت لبارزاني إيجازاً بنتائج محادثاتنا في بغداد وقلت له إن العراقيين كانوا إيجابيين وعبروا بأكثر من طريقة عن استعدادهم لمنح الكرد حقوقهم وأعتقد أن من المفيد أن يذهب بارزاني بنفسه إلى بغداد. إلى ذلك قدمنا تقريرنا إلى قيادة الجبهة الكردستانية وكان موقف الجميع إيجابياً لجهة الاستمرار في المفاوضات”. (سامي عبد الرحمن – أربيل في 12/7/1993)
مساعي بغداد لشق الصف الكردي
هكذا قرر بارزاني أن يذهب إلى بغداد على رأس وفد ضم عبد الرحمن وروز نوري شاويس وجوهر نامق. يتابع عبد الرحمن حديثه عن هذه الجولة من المحادثات: “بعد نحو 10 أيام بدأنا نتلقى رسائل من طالباني بطلبات من العراقيين إطلاق سراح معتقلين كرد عندهم في مقابل إطلاق سراح ضباط عراقيين محتجزين عنده. تكوّن لدي انطباع بأن طالباني كان يريد أن يدعوه العراقيون إلى بغداد لينضم إلى بارزاني وهذا كان من حقه طبعاً لكنهم قابلوا رغبته ببرود. كانوا بدأوا فعلاً مساعيهم وفقاً لمبدأ فرّق تسد، خصوصاً أنهم كانوا يعرفون أن التعامل مع طالباني ليس سهلاً (…) شخصياً كنت آمل أن تتحسن العلاقة بين طالباني وبغداد لاعتقادي بأننا ككرد لن نحقق أي شيء من دون بقائنا متحدين”. ولاحظ عبد الرحمن أن العراقيين كانوا في البداية أقل تشدداً، لكنهم مع مرور الوقت كان موقفهم يزداد تشدداً، خصوصاً بعدما زار رئيس هيئة الأركان الاميركية المشتركة الجنرال كولن باول قواته في سرسنك (محافظة دهوك) في حزيران/ يونيو، وأعلن أن واشنطن قررت سحبها من المنطقة في تموز/ يوليو. وأضاف أن “أكبر عقبة في المفاوضات تمثلت في الموقف من كركوك في الدرجة الأولى ثم سنجار وخانقين مع أنهم في البداية لم يظهروا النية بعدم سماحهم بضم هذه المدن إلى منطقة الحكم الذاتي. غير أنهم بعد حزيران قالوا إنهم لن يجادلوا في هوية كركوك الكردية، لكن ضمها إلى منطقة الحكم الذاتي يعني الانفصال. كان ردي على ذلك أن هناك نفطاً في مناطق كردية أخرى كزاخو مثلاً، لكن طارق عزيز رد بأن ذلك أمر مختلف لأن كركوك تنتج النفط بالفعل وهذا يعني أن جهة ما ستأتيكم فوراً لمساعدتكم. لذلك اقترحنا أن يُشار في وثيقة الاتفاق إلى أن المناطق التي ترفض بغداد حالياً والتي تكون جزءاً من الحكم الذاتي، هي مناطق متنازع عليها ويقرر مصيرها مستقبلاً. بداية كان موقفهم إيجابياً من هذا الحل لكنني أعتقد أن انسحاب قوات التحالف من كردستان جعلهم يغيرون رأيهم (…) ومرة عندما قلت لعزيز إن كركوك في ضمير كل كردي رد علي بأن الأندلس أيضاً في ضمير كل عربي، ويمكنكم أن تبكوا على كركوك كما يبكي العرب على الأندلس (…) في النهاية كان يُفترض أن يُشار في الوثيقة السرية (البروتوكول) الملحقة بالاتفاق إلى أن كركوك وسنجار وخانقين تعتبر مناطق متنازع عليها. وأحب أن أشير هنا إلى أنني عندما تحدثت وقتها في دهوك عن موقف بغداد من سنجار قال لي أحد زعماء الإيزيديين هو الشيخ خلف: قل لهم إننا مستعدون أن نكون ايزيديين كرداً لكننا لسنا مستعدين أن نكون إيزيديين عرباً. في نهاية المطاف، عندما عدنا إلى بغداد في آب/ أغسطس مفترضين أننا سنوقع اتفاقاً، وقع الانقلاب العسكري في موسكو ضد الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف فتشدّد العراقيون مجدداً، وقال عزة الدوري لمسعود بارزاني: انتهى الامر. أميركا لم تعد القوة العظمى الوحيدة. هكذا عدنا إلى كردستان من دون توقيع الاتفاق”. (سامي عبد الرحمن – اربيل في 21/7/1993).
كل ما توقعه صدام حسين وقاله ثبتت صحته، وهي جملة اعتبرناها إدانة لأنفسنا.
أما فؤاد معصوم الذي شارك وقتها في أحد الوفود ممثلاً عن الاتحاد الوطني الكردستاني، فأضاف معلومات أخرى عن الموقف من كركوك: “خلال إحدى جلسات التفاوض قال لنا عزة الدوري: إننا نعرف أن الغرب لن يسمح لكم بضم كركوك. قبل أن تسيطروا على كركوك لم يكن الغرب ضدكم وبعدما استوليتم عليها أعطانا الغرب الضوء الأخضر لضربكم. والآن لم تعد كركوك تحت سيطرتكم وهذا ما يريده الغرب. طارق عزيز زاد على الدوري قائلاً: أنتم لا تعرفون الأميركيين. حتى إذا تعاونتم معهم 20 عاماً أخرى فلن يكون لكم نفوذ مثل نفوذنا لديهم لذا لا تخدعوا أنفسكم”. وعن البروتوكول أو الميثاق الملحق بالاتفاق المفترض (الالتزامات كما سماها معصوم)، فإن العراقيين أصروا على أن تكون التزاماتنا تجاههم علنية لكن التزاماتهم لنا تبقى سرية. أما النص المقترح لبيان إعلان الاتفاق الذي أعده الطرف العراقي فكان يبدأ بالجملة التالية: كل ما توقعه صدام حسين وقاله ثبتت صحته، وهي جملة اعتبرناها إدانة لأنفسنا. وبعدما عدنا إلى كردستان بدأت بغداد مساع لشق الصف الكردي. وحتى بعدما اعلنوا الحصار على كردستان طلبوا التفاوض مجددا. مام جلال أبلغ بارزاني انه إذا أراد فيمكنه أن يرسل إلى بغداد وفداً عن حزبه وحده. بارزاني ذهب إلى بغداد وحده لطلب رفع الحصار فرفض طلبه. وعندما عاد إلى كردستان قال لطالباني إن العراقيين خدعوه فهم أبلغوه انهم سيرفعون العقوبات إذا قام بزيارة بغداد” (فؤاد معصوم – أربيل في 14/7/1993).
“الميثاق” يثير خلافات كردية
البروتوكول السري الذي اقترحته بغداد، ومن مسمياته الأخرى الميثاق والملحق والوثيقة، كان هدفه الرئيس حمل الكرد على قبول الزعامة المطلقة لصدام حسين والولاء لنظامه. عندما وصل إلى مسامع القيادات الكردية موضوع البروتوكول السري كنت في أنقرة في مهمة صحافية مندوباً عن “الحياة”. وكان جلال طالباني يزور العاصمة التركية للقاء الرئيس تورغوت أوزال. وكان يرافقه في الزيارة برهم صالح الذي كان وقتها ممثلاً لحزبه في لندن ومن أقرب المساعدين إلى طالباني. أقام طالباني في فندق “إيتشقلا” الذي كان مالكه من كرد تركيا. في ذلك الوقت كان وفد الجبهة الكردستانية برئاسة بارزاني قد عاد لتوه من بغداد إلى كردستان، لمناقشة نتائج مفاوضاته في تلك الجولة في إطار موضوع “الميثاق” وكانت قيادة الجبهة تنتظر وصول طالباني لمعرفة موقفه. شخصياً لم أكن على اطلاع بالموضوع، لكن طالباني كشف لي وجود ملحق سري للاتفاق المفترض وما يتضمنه من التزامات تعسفية الأمر الذي كان يقلقه خشية أن يوافق بارزاني على توقيعه. سألته عن ذلك فذكر لي شيئاً من مضمون الميثاق كي أشير إليه في تقريري الصحافي، لكنه في النهاية وافق على تسريبه لي وطلب من صالح الذي كان يحتفظ بنسخة من الوثيقة أن يطلعني عليها من دون استنساخه، كي أستطيع أقلّه الاستشهاد بنص جملة أو جملتين. في الحال أعددت تقريري وعنونته “أكراد العراق بين مستقبل مجهول واتفاق يلزمهم الولاء لصدام” وأرسلته إلى “الحياة” التي نشرته في الصفحة الأولى في اليوم التالي تحت العنوان ذاته. بعد عودتي إلى لندن التقيت الصديق اللبناني القانوني البارز شبلي ملاط الذي كان وقتها أستاذاً في جامعة لندن وداعماً للمعارضة العراقية فأخبرني أنه صعق عندما قرأ تقريري. أضاف أنه ترجم فقراته الرئيسية واتصل رأساً بالنائبة العمالية البريطانية آن كلويد التي كانت تتبنى قضايا المعارضة العراقية عموماً والكردية خصوصاً، فأثارت ضجة حوله مع وزارة الخارجية البريطانية، وطالبتها باتخاذ موقف منه. في الأثناء، كانت الوثيقة سربت إلى عواصم غربية، ما أثار قلقها وانزعاجها. عموماً منذ تلك اللحظة بدأت الأوضاع تتغير تدريجاً نحو ما اعتبره الكرد تحولاً في صالحهم بعد التدخل الأميركي والغربي واقامة الملاذات الآمنة في كردستان وفرض حظر الطيران على العراق دعما للكرد الذين شعروا بأمان كاف ليرفضوا في النهاية توقيع اي اتفاق مع بغداد.
“أكراد العراق بين مستقبل مجهول واتفاق يلزمهم الولاء لصدام” وأرسلته إلى “الحياة”
في الخلفيات، استمعت إلى تفاصيل عن قصة الميثاق من عدنان المفتي في لقاء معه أجريته في 1993. كان المفتي وقتها عضواً في قيادة الحزب الاشتراكي الكردستاني وشارك في وفد الجبهة الذي رأسه بارزاني إلى بغداد عندما طلب العراقيون منه قبول الميثاق. قال المفتي: “بالنسبة إلى الميثاق الذي أصروا عليه فإننا على رغم قناعتنا بأننا لن نوافق عليه لكننا قبلنا مناقشته وسعينا إلى تقديم إضافات اعتبرنا أنها قد تكون تعجيزية بالنسبة إليهم. مثلاً جاء في نص مسودة الميثاق أن صدام هو مهندس اتفاق الحكم الذاتي لعام 1970 فقلنا لهم إنه من غير المعقول عدم ذكر اسم ملا مصطفى بارزاني أيضاً، وهو الذي وقع الاتفاق مع صدام. شخصياً كنت واثقاً بأنهم لن يقبلوا لكنهم في اليوم التالي أخبرونا أن صدام قال إن الوفد الكردي سجل هدفاً ضد الوفد الحكومي وإنه يوافق على الاقتراح الكردي. الحق أن ذلك ترك تأثيراً نفسياً إيجابياً في نفوس بعض أعضاء وفدنا. وعلى رغم أن تعديلات بسيطة أخرى أجريت على الميثاق، لكنها في الواقع كانت كلها تجميلية. فشلنا في محاولات أخرى من جهتنا. مثلاً قلنا إننا نوافق على ما جاء في الميثاق بأننا ضد من يعادي العراق لكن من دون الفقرة التالية التي تلزمنا الدفاع عن أهداف الثورة. كان النقاش في هذه الأمور بين أعضاء الوفد يثير الحساسيات والخلافات أيضاً. كاك مسعود كان يقول لنا من الأفضل أن ننسى هذا الموضوع الآن، ولنبت القضايا الأساسية وبعد ذلك يمكن كل طرف (من أطراف الجبهة الكردستانية) أن يقرر صيغة العلاقة بينه وبين حزب البعث أو يمكن لكل حزب كردي أن يوقع الميثاق على حدة، وليس كجبهة كردستانية. هكذا لم نتفق على موقف موحد. وأخيراً عندما استقبل صدام كاك مسعود على انفراد، شدد على أنه لن يقبل أبداً بضم كركوك إلى منطقة الحكم الذاتي. وبعد اللقاء فهمنا من كاك مسعود أن آماله انهارت بإقناع صدام بالموافقة على أمور أخرى وقال لنا إن هذا هو الواقع والحكومة ليست مستعدة لتقديم المزيد. وبدورنا قلنا إن ما يقدمونه أقل بكثير من الحد الأدنى الذي اتفقنا عليه في اجتماع الجبهة الكردستاني في شقلاوة، وعلينا أن نعود ونطرح على القيادة هذه النتيجة. عدنا إلى كردستان وظهرت بيننا خلافات وأعتقد أن كل التطورات اللاحقة كانت نتيجة لتلك الخلافات وكان ذلك ما دفعنا إلى تبني فكرة الانتخابات التي كان جوهرها حسم الخلاف على الاتفاق مع بغداد. وأستطيع القول إن المحصلة النهائية لفشل المفاوضات ينطبق عليها: “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”. (عدنان المفتي – لندن في 3/6/1993).