نهاية السياسة واللامسؤولية المنظمة
2021-01-03 15:25:10
مریوان وریا قانع - آراس فتاح زاوية اسبوعية يكتبها ل( الحصاد DRAW ) :
ترجمة : عباس س المندلاوي
لقد غادرتنا سنة اخرى وشرعنا في الدخول في الاخرى ، ولكن ما نلمسه ونعايشه في عالمنا هو ان العديد من الازمات المختلفة والخطيرة والمريعة تواجه مجتمعنا ويسوق افرادنا وانسانيتنا نحو الهلكة والفناء التام ، واحدى تلك الازمات وربما تعد من اخطرها ، ولكن أقل تناولا وتطرقا اليها ؛
أزمة نهاية شاملة وقاصمة للسياسة ، فنحن نعيش منذ سنوات في اوضاع انعدمت فيها السياسة ، أجواء مجردة من السياسة وفي العيد من الاوجه معادية للسياسة تماما . هنالك الكثير من العناصر والمؤثرات المباشرة وغير المباشرة مُشارِكة في محو وافناء السياسة ، بشكل اننا نلمس اليوم التحضير لصعيد سياسي بدون سياسة حقيقية والاستعداد السياسي دون سياسة ، التحضير لسياسة تفسر عالمنا من خارج البعد السياسي المفني لذلك العالم ، ولكن كيف عالمنا هذا بلا سياسة ؟ باي معنى هذا الصعيد من دون سياسة ؟ ألا نسمع ونرى الجميع يتحدث عن السياسة كل يوم ! والعديد من الكُتاب والمثقفين يشددون على ان السياسة تهيمن على كل شيء ، أليس هناك الكثير من الرؤى والطروحات تتحدث عن ضرورة فصل السياسة واستبعادها كشرط لتحرر الفرد والمجتمع ، وكل تلك الاحزاب والمنظمات السياسية والاعلام المسيس والحزبي وكل تلك الخطابات والمقالات ، اليست كل ذلك سياسة ؟
السياسة تكون على مسارها الحقيقي وتعطي معناها عندما مبنية على اساس اجتماعي حقيقي وهو ان الظروف والاوضاع الانسانية مختلفة وتعددية ،والعالم والمجتمع تعددي ، الاختلاف والتمايز هو سمة الحياة وتعايش الاجتماعي ، إذاً السياسة هي فن وفعالية تنظيم تلك الاختلافات والتمايزات المجتمعية بشكل تظهر معه تلك الاختلافات مع امكانية تعايشها ، وهذا يجعل البشر كمجموعات وافراد وتنظيم العلاقة بينهم هو محور اهتمام السياسة وليس الفرد كمخلوق وحيد ، الانسان كفرد وحيد ممكن ان يكون مادة او محورا للقصائد والاشعار والاغراض الادبية الاخرى والفلسفة ولكن ليس مادة ومحور السياسة ؛ نستنتج من ذلك ان السياسة نشاط وفعالية تهتم وتعمل على التعددية الانسانية ، فيما الفسلفة واقسام اخرى من الفكر تبحث في الانسان كفرد ، التعددية كمحور رئيس في السياسة معناها الاهتمام بالانسان في حالته الاجتماعية او الجمعية و في حالة ترابطهم بكل اختلافاتهم ، لذلك نرى جميع المفاهيم التي تتداخل مع السياسة تصبح مفاهيم جمعية وتعددية او عامة . فمثلا حرية الانسان في الفكر الفلسفي ممكن ان تكون تعني الحرية الشخصية او الفردية ، تكون مرتبطة هل الشخص ممكن ان يكون حرا ؟ هل هناك شيء باسم الارادة الحرة ؟ اذا وجدت فالى اي مدى تكون حرة ؟ ..الخ . في كل ذلك يتم الحديث عن قدرة الفرد التحرر او التمتع بالحرية ن فيما في السياسة ليست هناك صلة بالحديث عن الارادة الحرة للفرد او عدمها ، الارادة الحرة ليست موضوعا يبحث في السياسة التي لا وجود فيها للحرية الفردية ، لان الفرد على اتصال دائم مع الاخرين ضمن دائرة علاقات اجتماعية ، اي ان الانسان كفرد لايستطيع ممارسة حريته بمعزل عن الاخرين .
الحرية في السياسة هي حرية جمعية عندما يعيش ويعمل ويتصل الافراد معا ، الحرية تكون لها معنى عندما يعيش الفرد بين الجماعة ، هكذا تكون السياسة كنشاط عملي وتنظيمي واداري و ممارسة الحياة العامة ، التي يسعى لها الافراد ويعيشونها .
ما يفتقر اليه عالمنا هو هذه النظرة والرؤية للسياسة ، ما يغيب عن عالمنا هي السياسة كنشاط تنظيمي والتعددية الانسانية ( الافراد) المعنوية وتنظيم وصياغة التعايش الجمعي والعمل معا وفق النُظُم واساليب العلاقات الانسانية كمجموعات و بشكل عام .
وما يحدث في عالمنا عكس هذا الفهم للسياسة تماما ، وفي الحقيقة هو ممارسة الجانب المضاد لهذا الفهم ، فالسياسة تعني عندنا العمل على حماية مجموعة صغيرة داخل المجتمع ضد الغالبية العظمى من المجتمع ، وهو إختصار السياسة على تضخيم وتقوية وتعظيم فوائد وارباح عدة عوائل وأُسر على حساب معظم افراد المجتمع ؛ أي تمليك السياسة وتحديدها لمجموعات صغيرة وجعلها ملعونة من قبل آخرين .المجتمع الكوردي لا ينتظر شيئا ايجابيا من هذه السياسة ، ليس لان السياسة عبارة صحراء قاحلة لا تنبت شيئا بل لان لا وجود لسياسة تعمل على احياء وتنظيم المجتمع وحماية التعددية والاختلافات والحريات وتجعل ذلك مهمة رئيسة لها . ففي مجتمعنا تسود القطيعة والانعزالية بدل الترابط والتواصل وبدل التقارب الاجتماعي يسود التباعد والتنافر و بدلا من خلق التعايش والتكتل نرى التفكك والتفتت الاجتماعي والتباعد والفُرقة بين الافراد والمدن والبلدات والمناطق .
وهذا يدل ان السائد في مجتمعنا وعالمنا هومنطق ما قبل ولادة السياسة ، هو منطق العنف ومنطق و شرع الغاب القاضي باكل القوي للضعيف سيطرة عليه وعلى الاخرين وتوجيههم كيفما يشاء ؛ وعندما يعجز عن السيطرة اللجوء الى منطق التخوين ووصمهم بالعمالة وواعتبارهم خطرا وتهديدا ؛ أي استهداف غير الخاضع وتسقيطه وتصفيته معنويا ، ومن ثم اذا اقتضى الامر وسنحت الفرصة تصفيته ماديا وجسديا .
فاذا كان منطق السياسة هو منطق العلاقات والتواصل الاجتماعي والعمل الجماعي في الحياة العامة ، فإن ما يحدث في اقليم كوردستان هو سيادة منطق القوة بمعناه البدائي ( شريعة الغاب ) ، والذي يعتبر العنف حصيلته الرئيسية والاساسية ، فالسياسة هنا ( الاقليم ) بقدر ما تفرز المؤامرات و التهديدات واحتمال وقوع الصدامات العنيفة كما انها نشاط منظم لسرقة الاموال والممتلكات العامة والثروات وتخريب العلاقات بين الافراد ، فانها بعيدة عن التعريف والوصف الذي تحدثنا عنه آنفا ، السياسة في اروقة الحكم السلطات الكوردية وخطاباتها عبارة عن اكاذيب ومجرد تهديدات ومن ناحية التطبيق اضحت مرادفة لتحريك القوات وممارسة العنف .
بالطبع ان موضوع ” نهاية السياسة “ في الفكر السياسي نفسه كان محل ابحاث و تمحيص مرات عديدة ، وربما اهمها طرح المنظرة السياسية ( هانا آرنت ) في خمسينات القرن الماضي . اذ تعتقد ارنت ان العالم المدني محى البعد السياسي في داخل الافراد وحول السياسة الى مجرد شؤون ادارية ، ولكنهاتتحدث عن ضياع السياسة ونهايتها في معمعة الحرب الباردة وصنع القنابل النووية ، وتضيف ان ممارسة السياسة في عصر مخاطر وتهديدات الحرب النووية تواجه خطر الفناء ، لان جل اهتمام السياسة انصب وتركز على كيفية الحيلولة دون وقوع تلك الحرب الكارثية ، التي تعتقد هانا آرنت انها لن تكون الحرب العالمية الثالثة بل ستكون آخر الحروب ونهاية البشرية . اقتصار السياسة على المحاولة من اجل منع اندلاع الحرب النووية يعني انهاء الممارسة السياسية وقتلها ، مع ان مهمتها الرئيسة هي حماية التعددية البشرية والتعايش وضمان التواصل الدائم والحرية داخل المساحة العامة .
وعلى شاكلة هانا ( حنا) آرنت ،تحدث یورگن هابر ماس عن نهاية السياسة في ستينات قرن العشرين ولكن من زاوية و نظرة مختلفة قليلا ؛ هابر ماس كان يعتقد ان السياسة مقبلة على التحول الى نشاط سري وعرض غير سياسي كبير يحدث بمعزل عن المجتمع ، وفي هذا النشاط السري السياسة تصبح توافقا بين ممثلي المصالح الاقتصادية الضخمة على الاسواق والارباح .فباعتقاد هابرماس ان هذه السرية وحرمان وقطيعة الناس والمجتمع من النشاط والمشاركة السياسية يجعل الديمقراطية مجرد اطار فارغ من المحتوى الحقيقي لممارسة السياسة الحقيقية .
النقطة المشتركة التي تجمع وجهتي نظرآرنت و هابرماس هي اعتقادهما ان هناك استبعاداً للسياسة من ان تكون نشاطا جمعيا للافراد معا بغية ضمان حياة عامة ، ولا تستطيع الاهتمام بالحياة العامة للناس وتطويرها ، وتنقطع صلتها بالتعددية في حياة و وجود الناس ، بل تم اقتصارها على حماية مجموعة من الارباح والمكتسبات الشخصية . وهذا التحول والتبدل في كيفية تعامل السياسة جعلها تهديدا على الممارسة نفسها وللمجتمع ، فبدلا من حماية الحياة العامة و الاهتمام بالاختلافات وتنظيمها تعمل على منطق فرز العالم وتقسيمه الى عدو و صديق ؛ الى جهة او شخص مكسبه في صالحي وجهة او شخص مكسبه ضرر عليَ،وهذا المنطق يصنع الشمولية بدلا من سياسة حماية الاختلافات والتعددية في الحياة والأفراد ؛ وهذه الشمولية عادت بثوب شعبوي ثقافي الى عالم السياسة في هذا القرن ، وتعمل على تقسيم عالم البشر والمجتمعات والدول .
في منطقتنا معظم الدول منهمكة منذ سنوات في الحرب المسمى بحرب ضد الارهاب الى جانب الحروب بين الدول واقتتال القوى مع بعضها ، ومعظم تلك الحروب ليس لها ابعاد داخلية فقط بل تمتلك ابعادا اقليمية ودولية ، في صراعات بين العديد من الدول والجماعات ، منذ سنوات عديدة فقدت السياسة عنصر المبادرة واصبح همها وعملها الرئيس الاهتمام بالمشاكل التي تتمخض عنها الحروب والاقتتال الداخلي وتشكيل مجاميع مسلحة وانتاج نخب فاسدة في المجتمع .
فبعد فشل تجربة ثلاثة عقود من الحكم والسلطة الكوردية ، السياسة تعيش ايامها الاخيرة ، في البداية افرغ الاباء السياسيون ، السياسة من مضمونها ودمروا مهمامها الخلاقة لحياة عامة وحماية التعددية ، والان ابناء الساسة السابقون جعلوا من السياسة نشاطا وفعلا غير مسؤولا منظما . بل امست السياسة عند هذا الجيل من الحكام هي كيفية تنظيم وادارة حرمان الناس من حقوقهم و الخدمات و امتهان كرامتهم ، وقد نجحوا في تدمير الشعور بالمواطنة و المشاركة السياسية الحقيقية واضعاف روح الانتماء كنتيجة لتلبية الاحتياجات الاجتماعية ، كالحرية والخدمات الاساسية و الضرورية. واذا استمرت ممارسة السياسة على هذا المنوال من العنف والتهديد وبنشاط سري واستعراض غير سياسي في غفلة من المجتمع ؛ هذه الحالة المفتعلة تعد اغلاقا لجميع الابواب امام اي احتمال لتغييرات سياسية تمنح السياسة معنىً آخرو معطيات اخرى .
السياسة في الاقليم أمست امتدادا لمسلسل الفشل في عهد ابناء الاباء السياسيين ولكن بأدوات اخرى ، وهذا الجيل الجديد من الحكام لا تواصل ثقافة ونهج ازالة السياسة عن جوهرها كما فعل اباؤهم فقط ،بل في الواقع هم نتاج من نتاجات وافرازات حالة نهاية السياسة . تجارب السنة المنصرمة تنبؤنا ان الجيل الجديد من ابناء العوائل السياسية الحاكمة في اقليم كوردستان قد غير الممارسة السياسية الى ممارسة لا مسؤولة مُنظَمة ؛ تجربة عام 2020 الماضي تحمل رسالةً جلية مفادها ان هذا الجيل الجديد لا يُتوقع منه ان تهب الحياة للسياسة