فورين بوليسي: انهيار الاقتصاد العراقي قد يكون الصداع الأول لبايدن
2020-12-17 12:15:06
الحصاد draw:
مجلة "فورين بوليسي"
نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية مقالاً لفرهاد علاء الدين رئيس مجلس الشورى العراقي وعمل كمستشار سياسي لآخر رئيسين للعراق، وكينيث إم. بولاك الباحث المقيم في معهد أمريكان إنتربرايز، وأكدا فيه أنه إذا فشلت الحكومة في دفع رواتب موظفي الدولة في يناير، فقد يؤدي ذلك إلى انتشار عدم الاستقرار والعنف على نطاق واسع. ويتعين على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي دعم بغداد مالياً قبل فوات الأوان.
وأضافا: إن أزمة العراق الجديدة هي آخر ما يحتاجه الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن. ومن المؤسف أن تكون أول مشكلة في السياسة الخارجية يتعين عليه أن يواجهها.
يرى الكاتبان أن العراق يتجه نحو الانهيار المالي، وفي حالته الهشة الحالية، من المرجح أن يؤدي الانهيار المالي إلى إسقاط نظامه السياسي المتهالك، الذي قد يشعل بعد ذلك جولة أخرى من الحرب الأهلية.
يقول الكاتبان: على مدى العقدين الماضيين، خلق الفساد مشكلة ذات جانبين للعراق. إن الحكومات الضعيفة والمتواطئة والاحتوائية في العراق تعني أن كل حزب سياسي رئيس سيدير وزارة أو أكثر. فهم يديرون هذه البيروقراطيات ليس من أجل صالح البلاد ولكن كشبكات محسوبية ضخمة – آلات الفساد التي تمتص عائدات النفط من الخزينة وتُنقلها إلى دوائرها الانتخابية على شكل وظائف وعقود وامتيازات أخرى. وقد أدت ظاهرة استفحال الكسب غير المشروع إلى خنق ما كان يمتلكه القطاع الخاص الصغير في العراق في وقت ما، مما يعني أنه لا يوجد الكثير من البدائل لوظائف القطاع العام.
ونتيجة لذلك، أصبحت الحكومة الآن أكبر جهة توظيف حتى الآن، ونسبة كبيرة من السكان تعتمد على الدولة في كسب رزقها - إما مباشرة من خلال الرواتب والمعاشات التقاعدية، أو بشكل غير مباشر عن طريق العقود أو توفير السلع والخدمات لمن هم على جدول الرواتب الحكومي. حتى الشركات الصغيرة في العراق تعتمد في نهاية المطاف على الحكومة لأن الكثير من عملائها – خاصة في المدن الكبرى – يحصلون على رواتبهم من الحكومة، بطريقة أو بأخرى. وعلاوة على ذلك، لا تزال الحكومة العراقية تقدم "سلة غذائية" شهرية عبر نظام التوزيع العام، الذي لا يزال عنصراً مهماً في الحياة اليومية للطبقة العاملة والعراقيين الفقراء.
يتابع الكاتبان: وليس من المستغرب أن تكون هناك زيادة في عدد العاملين في القطاع العام بمقدار ثلاثة أضعاف منذ عام 2004، وتدفع الحكومة رواتب أكثر بنسبة 400% مما كانت عليه قبل 15 عاماً. وهكذا أصبحت الحكومة وعائداتها النفطية المحرك الرئيس للاقتصاد العراقي والمورد الأساسي للشعب العراقي.
والنتيجة؛ هي أن بغداد تحتاج إلى 5 مليارات دولار شهرياً لدفع الرواتب والمعاشات التقاعدية المباشرة، فضلاً عن ملياري دولار أخرى لتغطية تكاليف الخدمات الأساسية والتشغيل، التي يشكل الكثير منها أشكالاً غير مباشرة من الدعم للسكان. ومع ذلك، فمنذ ظهور جائحة "COVID-19" وانهيار أسعار النفط (التي توفر نحو 90% من الإيرادات الحكومية)، تراوح الدخل الشهري للعراق بين 2.5 و3.5 مليار دولار. وهذا يعني أن بغداد لديها عجز شهري من 3.5 إلى 4.5 مليار دولار.
والآن يستنزف العراق أمواله تغطية على هذا العجز. وفي أكتوبر/تشرين الأول، صرح وزير المالية العراقي، علي علاوي، في مقابلة تلفزيونية بأن "احتياطيات البنك المركزي العراقية تبلغ 53 مليار دولار". ومنذ ذلك الحين، أقر البرلمان قانوناً لتمويل العجز المالي مكّن فيه الحكومة من اقتراض 10 مليارات دولار لدفع رواتب أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2020. وبذلك يصل إجمالي ديون العراق إلى 80 مليار دولار، وفقاً لمصادر حكومية ومقترحات الميزانية، وأجبر العراق على تخصيص أكثر من 12 مليار دولار من الميزانية السنوية لسداد القروض وفوائدها -وكلها تزيد من تفاقم العجز في رأس المال الحكومي.
وبحلول صيف عام 2021، قد تكون احتياطيات العراق من العملة الصعبة منخفضة بشكل خطير. والواقع أن الحكومة قد تُستنزف من النقد لدفع معظم التزاماتها الحالية.
ووفقاً لمسؤولين عراقيين، فإن الحكومة مضطرة إلى طباعة الأموال اللازمة لدفع القروض للحكومة التي تغطي الرواتب وتكاليف التشغيل، مما يهدد بإطلاق العنان للتضخم المستشري. وبسبب مخاطر التضخم غير المقيد، قد تضطر بغداد قريباً إلى خفض قيمة الدينار بدلاً من ذلك، لكن هذا أيضاً ينطوي على مخاطر اقتصادية وسياسية كبيرة. ومن شأن خفض قيمة العملة دون أن تصاحبها إصلاحات اقتصادية – التي ترفض القوى السياسية في العراق النظر فيها – سيشلّ الواردات ويقوّض المدخرات ويزيد من المصاعب.
وعلاوة على ذلك، من المحتمل أن يتسبب خفض قيمة العملة في زيادة التضخم أيضاً. ويعني تبخر العملة الصعبة أن العراق لن يتمكن قريباً من دفع ثمن واردات المواد الغذائية والسلع. فالعراق مستورد صافِ لكل شيء تقريباً باستثناء النفط. وإذا انخفض تدفق العملة الصعبة وانخفضت قيمة الدينار، فإن السلع ستصبح نادرة وسترتفع الأسعار. وقد ينخفض الدينار بحرية في غضون ستة أشهر إذا استمرت الحكومة في سحب الأموال المتبقية في البنك المركزي العراقي بمجرد بدء خفض قيمة العملة.
يوضح الكاتبان: أن بعض المسؤولين في الحكومة العراقية يأملون ببساطة أن تؤدي الزيادة المتوقعة في أسعار النفط هذا الربيع إلى إنقاذهم. ومع ذلك، ووفقاً للعديد من تجار النفط والمحللين، تشير معظم التوقعات إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 10-15%، وهي نسبة منخفضة كثيراً للقضاء على الأزمة العراقية التي تلوح في الأفق. وحتى هذه النسبة قد تتلاشى إذا حذا العراق إيران وليبيا حذو السعودية وروسيا بزيادة الإنتاج لحماية حصتهم من السوق.
يؤكد الكاتبان أنه إذا عجز العراق عن الاستمرار في دفع الرواتب، والحد الأدنى من النفقات الحكومية، وتكاليف التشغيل، فإن ذلك سيكون له عواقب مدمرة. وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي قد دق ناقوس الخطر من خلال مؤتمر صحفي في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، محذراً من "أننا سنواجه مشكلة دفع الرواتب في كانون الثاني/يناير. أنا أحذركم الآن".
وكشخصية تكنوقراطية لا تتمتع بقاعدة سلطة سياسية، لم يتمكن الكاظمي من دفع الأحزاب السياسية في العراق إلى معالجة المشكلة، ناهيك عن حلها. وقد أصدرت الحكومة ورقة بيضاء للإصلاح يوم 13 اكتوبر. ومع ذلك، فإنها لم تبدأ بتنفيذها. وبالتالي، لم تبذل أي جهود لخفض الرواتب، أو خفض أعداد الموظفين الحكوميين، أو حتى للقضاء على مئات الآلاف من الدرجات الوظيفية الموعودة على جدول رواتب بغداد خوفاً من إزعاج الزعماء السياسيين العراقيين المهمين.
عندما تولى كاظمي السلطة، كان يتمتع بدعم واسع النطاق: من العراقيين العاديين والآلاف الذين كانوا يتظاهرون في الشوارع، ومن المؤسسة الدينية الشيعية في العراق، ومن الأحزاب السياسية الشيعية المعتدلة، ومن العديد من السنة، وحتى من الأكراد. كان يُنظر إليه على أنه ذكي وبعيداً عن المعترك السياسي ورجل مؤثر وقريب من الأميركيين.
ومع ذلك، هناك خوف متزايد في جميع أنحاء البلاد من أن كاظمي لا يستطيع إصلاح النظام العراقي المعطل. والأزمة الاقتصادية التي ستنجم عن نفاد الأموال في العراق يمكن أن تكون المسمار في ذلك التابوت. ومن المرجح أن يكون كاظمي قد فقد مصداقيته تماماً. إن العديد من الأحزاب السياسية في العراق ستحاول أن تجعله كبش فداء لتجنب رد الفعل الشعبي الذي لا مفر منه. وفي الوقت نفسه، سيحاول القوى السياسية المحسوبة على إيران، الذين يعارضون كاظمي، استغلال الفوضى لإعادة تأكيد نفوذهم على الحكومة العراقية.
يقول الكاتبان: إنه من شبه المؤكد أن تؤدي الأزمة المالية إلى اثارة مظاهرات واسعة النطاق في الشوارع، حيث يطالب العراقيون مرة أخرى بتغيير الحكومة. وسيكون من الصعب على الحكومة الحفاظ على النظام إذا لم يتم دفع الرواتب وكان رئيسة الوزراء يفتقر إلى السلطة. وستحاول القبائل والجماعات المسلحة، بما في ذلك الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، ملء الفراغ وأخذ دور قوات الأمن الرئيسة في العراق. وهذه الجماعات نفسها ستتقاتل فيما بينها من أجل السيطرة على الأراضي. وقد تحاول السيطرة على الموارد المدرة للدخل مثل حقول النفط والموانئ والمعابر الحدودية والشركات الكبيرة والأراضي الزراعية والممتلكات الخاصة.
وفي مثل هذه الحالة، يمكن أن يصبح النزاع المسلح والاستيلاء على الأراضي أمراً شائعاً مرة أخرى، باستثناء المناطق التي تتمتع بأمن قوي، مثل إقليم كردستان. ومع ذلك، لن يكون حتى إقليم كردستان لن يكون في مأمن من المشاكل الاقتصادية الداخلية ما لم يتمكن من توسيع قاعدة موارده، لأنه أيضاً يعتمد مالياً على بغداد. ربما يكون الهدف الأكثر وضوحاً للأكراد هو كركوك وحقول النفط فيها، لكن هذا لن يؤدي إلا إلى تأجيج الصراع بين أربيل وبغداد، ناهيك عن الجماعات المسلحة الشيعية، التي ستقاوم مثل هذه الخطوة.
وكما كان الحال في 2005-2007 ومن 2014-2017، فإن جولة أخرى من الصراع الأهلي في العراق ستجذب دائماً معها الدول المجاورة للعراق. إن العراق ببساطة مهم جداً بالنسبة لهم جميعاً، ويمكن أن يتوقع منهم أن يتدخلوا لتأمين مصالحهم.
يشير الكاتبان إلى أن تركيا ستشعر بأنها مهددة بالمكاسب الكردية، لا سيما إذا استعاد إقليم كردستان كركوك. وستشعر أنقرة بأنها ملزمة بالدفاع عن المجموعة العرقية التركمانية هناك ومنع الأكراد من إحياء حلمهم بالاستقلال. وستعمل إيران بالفعل على استعادة نفوذها المهيمن في بغداد، ولا تستطيع طهران تحمل خسارة عائدات التجارة العراقية (التي تبلغ حوالي 12 مليار دولار)، وفرص التهريب، والوصول إلى الأسواق المالية الدولية.
يتابع الكاتبان: وقد يستجيب السعوديون لأي عودة للنفوذ الإيراني من خلال دعم الجماعات والقبائل السنية بالتمويل المالي أو الأسلحة للدفاع عن أنفسهم، خاصة وأن الرياض لا تستطيع الاعتماد على وجود كبير للقوات الأمريكية للتعامل مع المشكلة، كما حدث في عام 2006. ويمكن للعراق أن ينزلق بسهولة إلى الحرب الأهلية بين الطوائف، مع تدخل القوى الإقليمية يجعل العراقيين يتصارعون مع بعضهم.
وبالنظر إلى خطورة الوضع وأهمية العراق في المنطقة وسوق النفط الدولية، فإن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لا يمكنهما أن يقفا مكتوفي الأيدي. وبطبيعة الحال، خلال الأشهر الستة الأولى من إدارته، ومع وجود أزمة وبائية واقتصادية هائلة في الداخل، لن يتمكن بايدن من تحمل تكاليف جعل هذه القضية ذات أولوية قصوى له أيضاً، ولكن العمل في أقرب وقت أقل تكلفة ويتجنب الخيارات الصعبة في وقت لاحق، عندما يكون العراق في حالة انهيار كامل.
وإذا كانت الحكومة الأميركية مستعدة لإظهار دورها القيادي، فمن المرجح أن تكون العديد من الدول الأخرى مستعدة للمشاركة أيضاً. ومن المتوقع أن تتمكن المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودول الخليج الفارسي، وحتى بعض الدول الأوروبية وبلدان شرق آسيا من جمع بعض النقود.
يرى الكاتبان بأن أزمة العراق القادمة هي أزمة سيولة. وسيحتاج العراق إلى المال لمنع انهيار نظامه المالي، الذي سيكون أول قطعة دومينو يسقط. وإذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لتأمين بمبلغ كبير، ربما مليار دولار، فمن المفترض أن يكون من الممكن جمع حزمة أكبر من 5-10 مليارات دولار للعراق من قبل الدول الحليفة أخرى.
وقد تبدو فكرة تقديم دعم طارئ للميزانية لدعم العراق بقيمة مليار دولار أمراً مستحيلاً في الوقت الراهن. ولكن يفترض ألا تكون كذلك، لأنها لن تخرج من جيوب الأميركيين العاديين على شكل ضرائب متزايدة – وكان ينبغي أن تتعلم أمريكا من السنوات الـ 12 الماضية درسين مهمين حول هذا الجزء من العالم:
أولا: إن ما يحدث في الشرق الأوسط لا يبقى هناك. وثانياً: درهم وقاية خير من قنطار علاج – كما تجلت في سياسات واشنطن المأساوية تجاه العراق وسوريا وليبيا.
بطبيعة الحال، فإن حتى 10 مليارات دولار، بمعدل الحرق المالي الحالي في العراق، لن تدوم سوى ثلاثة أشهر. ولهذا السبب يجب أن ترافق الأموال شروط قوية مثل: تدابير تقشفية لتشجيع الادخار، تخفيضات كبيرة في الإنفاق الحكومي، تدابير صارمة لمكافحة الفساد، دمج أفراد الجماعات المسلحة بالكامل في الجيش العراقي – كأفراد، وليس كجماعات، وبالتالي تكون مُحاسبة أمام الحكومة العراقية. وينبغي تقديم حزم من المساعدات اللاحقة كحوافز إضافية، ولكن فقط إذا التزم العراق على هذه المتطلبات.
يوضح الكاتبان أنه من شأن مجموعة المعونة الدولية هذه أن يكون لها غرض ثانوي حاسم. ففي العراق، الطريقة الوحيدة لبناء الدعم لأجندة سياسية – وبناء قاعدة قوة لتنفيذها – هي بواسطة الموارد. لقد أثبت كاظمي مراراً وتكراراً أن لديه النوايا والأفكار الصحيحة، لكنه يفتقر إلى القوة السياسية والعسكرية اللازمة لتطبيقها. إن وضع مليارات الدولارات تحت تصرفه ولكن بشروط صارمة من شأنها أن تعطيه الموارد اللازمة لبناء هذا الدعم واستخدامه لمواجهة الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة والنظام الفاسد في العراق.
وهذه التدابير هي ما يحتاج العراق على المدى الطويل أيضاً. وكلما استطاع كاظمي أن يلوم المجتمع الدولي على إجبار العراق على اتخاذ هذه الخطوات، وكلما أدرك العراقيون الآخرون أنهم إما يأخذونها أو ينهار النظام بأكمله، سيؤدي إلى قدرة أكبر لتطبيق ما يأمل به دائماً وما تتأمله الحكومة الأميركية دائماً بقدرته على الفعل.
يختتم الكاتبان مقالتهما بالقول: عندما كان بايدن نائباً للرئيس الأميركي، فاز بمهمة مشكوك فيها في التعامل مع العراق. وبالنظر إلى مسار العمل الذي كان ينوي الرئيس آنذاك باراك أوباما القيام به، يمكن القول إن هذا كان أسوأ مهمة على الإطلاق. عندما يتولى منصب الرئيس، قد لا تكون معالجة مشاكل العراق أولويته أو رغبته، لكن أزمة بغداد تتيح له فرصة لوضع البلاد - ومصالح الولايات المتحدة هناك - على الطريق الصحيح بطريقة لم يتمكن فيها من القيام بذلك في المرة الأخيرة التي كان مسؤولاً فيها عن ملف العراق.