السليمانية “منطقة خضراء” للصحافيين والنشطاء الهاربين من كواتم الصوت!
2020-12-01 21:03:07
الحصاد draw:
صلاح حسن بابان- DARAJ
يمضي الصحافيون والنشطاء المطاردون في بلدهم، أياماً عصيبة مع مرارة الخيارات المتاحة أمامهم بين التخفي الدائم بعيداً من عيون الميليشيات ورصاصاتهم الكاتمة، أو الهجرة والاغتراب لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
تُخرج نسرين (اسم مستعار، 27 سنة) السيجارة ما قبل الأخيرة من علبتها. تحدّق بحزن بزحام العابرين في الخارج عبر نافذة مقهى شعبي في حي سرجنار في مدينة السليمانية، قبل أن تقول وهي تنفخ الدخان بحرقة “الكثير من هذه الوجوه السمراء المتعبة، جاءت إلى هنا من بغداد ومدن الجنوب، هرباً من أدوات القتل”. تضيف مستعيدةً بعض تفاصيل الواقعة التي أجبرتها على ترك مدينتها: “كانت الساعة تشير الى السادسة مساء، حين رن هاتفي، فعلمت بأن أصدقائي الثلاثة ينتظرونني في السيارة خارج منزلي لكي نذهب إلى مجلس عزاء صديقنا الناشط في احتجاجات البصرة تحسين أسامة، بعد يومٍ واحدٍ من اغتياله بمسدسات مزودة بكواتم صوت أمام بيته”. بمجرد خروجها من الباب وقعت عيناها على سيارة سوداء مقبلة باتجاههم وهي تضم رجالاً يحملون مسدسات امتدت مع أياديهم من نوافذها الجانبية: “لم أفكر لحظتها إلا بالصراخ لأنبّه أصدقائي الذين هرعوا معي الى الداخل مسابقين وابلاً من الرصاص انهمر علينا”. تطفئ سيجارتها. 17 رصاصة أخطأتهم، باستثناء واحدة أصابت ساق نسرين اليمنى، وأنقذهم الجدار الخارجي لمنزلها الذي احتموا خلفه من موت أكيد. دقائق صعبة وثقيلة عاشوها قبل أن تصل قوة من الشرطة وتنقلتهم إلى مكان آمن. بعدها ونزولاً عند نصيحة الأهل والأصدقاء قررت ترك مدينتها وعملها في منظمات في المجتمع المدني والانتقال إلى مدينة السليمانية في إقليم كردستان خوفاً من استهدافها مرة ثانية.
تميط نسرين اللثام عن تجربتها، كناشطة في ساحات التظاهر في البصرة، أكبر مدن الجنوب العراقي والتي خرج شبابها ضد فساد القوى المتنفذة في الدولة مطالبين “بالاصلاح واستعادة الوطن”. تتوقف بحزن عند عام 2018، حين نشرت صورة لها مع قنصل غربي وهو يكرمها مع مجموعة من زملائها النشطاء في البصرة: “تعرضت بسببها إلى شتى انواع الإهانات الأخلاقية والمعنوية من الميليشيات والموالين لها. اتهموني بالتخابر والعمالة لإسرائيل. وتلقيتُ الكثير من الرسائل النصية والاتصالات من أشخاص مجهولين هددوني بالقتل”. نفذوا تهديدهم. لكنها نجت. مع ان تهديدات مماثلة، عادة تنتهي بالموت.
“سنصل إليكم حتى ولو صعدتم إلى السماء”.
غيرت لون شعرها. تحاول قدر الإمكان إخفاء وجهها والتخفّي حتى وهي في السليمانية. فأذرع الميليشيات طويلة. وكثيرون من أقراننا غادروا السليمانية إلى خارج البلاد، بعد شعورهم بأنهم ملاحقون من جواسيسها. إحدى الرسائل التي وصلتها تقول بالحرف: “سنصل إليكم حتى ولو صعدتم إلى السماء”.
لم تعد نسرين تحلم الآن إلا بالحصول على فرصة هجرة إلى أوروبا أو أي دولة أخرى تخلصها من خوفها وقلقها اليوميين. تقول بقناعة تامّة: “لن تتركنا الفصائل التابعة للأحزاب الإسلامية الشيعية في حالنا حتى إن انتهت المظاهرات”.
تلك الفصائل التي توالي بغالبيتها ايران، وتعمل لمصلحتها حتى لو تقاطعت مع مصلحة بلدها، متهمة بارتكاب عمليات اغتيال مخطط لها وتنفيذ هجمات قتل عشوائية خلال الاحتجاجات الشعبية التي شهدها العراق في تشرين الأول/ اكتوبر 2019 واستمرت نحو عام، شهد استهداف مئات المتظاهرين والنشطاء المعروفين في بغداد ومحافظات ذي قار والبصرة والنجف والديوانية.
560 شخصاً قتلوا خلال التظاهرات
وبحسب إحصاءات وأرقام صادرة من أطراف حكومية ومنظمات حقوق الإنسان، فان أكثر من 560 شخصاً قتلوا خلال التظاهرات إلى جانب جرح الآلاف بينهم عشرات أصيبوا باعاقات تمنعهم من استعادة حياتهم السابقة، فضلاً عن خطف واخفاء عدد من النشطاء والصحافيين الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
السليمانية ملاذ آمن
توثق “جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق” تعرض 341 صحافياً عراقياً منذ تظاهرات تشرين الأول 2019 إلى شتى أنواع “الانتهاكات الجسيمة والمضايقات”. طاولت بوجه الخصوص العاملين منهم في المؤسسات الإعلامية المعروفة بتغطيتها للاحتجاجات. وتنوعت بين اغتيال وتهديد بالقتل فضلاً عن الاختطاف والاعتقال والاحتجاز.
مدير الجمعية مصطفى ناصر يعبّر عن قلقه البالغ مما يتعرض له الصحافيون، لأنه “مؤشر خطير جداً على تدهور حرية الصحافة، وسيؤدي حتماً الى تراجع العمل الصحافي وتقييد امكانات السلطة الرابعة وقدرة الصحافيين على التعبير والتأثير في الرأي العام”.
وبحسب مركز”ميترو” المعني بالدفاع عن حقوق الصحافيين والذي مقره الرئيس في السليمانية، اتخذ 178 صحافياً وناشطاً بعد انطلاق احتجاجات تشرين الأول 2019 من محافظة السليمانية ملاذاً لتجنب المصير الذي لاقاه زملاء لهم “اغتيلوا على أيدي عناصر الأمن والميليشيات أو اعتُقِلوا وبعضهم ما يزال مصيره مجهولاً”.
يشير مدير المركز ديار محمد، إلى أن هناك عشرات غيرهم في السليمانية، لكنهم يمتنعون عن تسجيل أسمائهم خوفاً من تسرب أي معلومات عنهم وبالتالي رصد أماكن سكنهم وتحركاتهم في المحافظة.
178 صحافياً وناشطاً اتخذوا من محافظة السليمانية ملاذاً لتجنب المصير الذي لاقاه زملاء لهم
ويؤكد محمد أن معظم الصحافيين المسجلين في مركز ميترو “تعرضوا للتهديد بالقتل والاختطاف في محافظاتهم مع عجز الجهات الأمنية عن حمايتهم”، مبيناً أن “العاصمة بغداد تأتي في مقدمة المحافظات التي غادرها الصحافيون والناشطون وتليها الديوانية ومن ثم ذي قار”.
ويشير ديار إلى أن كثراً من النشطاء والصحافيين يعانون، إضافة الى حالتهم النفسية السيئة، من تدهور أوضاعهم المالية وحاجتهم للمساعدة العاجلة.
ويقول أن مركز “ميترو” سبق أن قدم مذكرة رسمية الى الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان في شهر ايلول/ سبتمبر 2020، لتقديم المساعدات اللازمة للصحافيين والنشطاء الهاربين من محافظاتهم “لكنهم لم يحصلوا سوى على وعود… لم يتلق أيٌ منهم المساعدة، باستثناء ما قدمته بعض المنظمات الدولية”.
“هدّدوا باغتصاب ابنتي”
تحدّى أبو حليمة (اسم مستعار)، وهو محامٍ وناشط مدني، كل التهديدات التي وصلته بقتله وتصفيته جسدياً أو اختطافه كما حصل مع كثر من أصدقائه، إذا لم يتوقف عن المشاركة في التظاهرات في محافظة ذي قار.
لكن الميليشيات رفعت سقف تهديداتها لهُ مطلع العام الحالي، وحذرته من إمكان خطف ابنته وتصويرها وهي تتعرض للإغتصاب ثم قتلها، في حال لم يترك ميادين الاحتجاج: “لديّ ولدين، ابنتي البكر عمرها عشر سنوات فقط، وطفلي الثاني خمس سنوات. أرادوا بتلك الطريقة الدنيئة الانتقام مني بعد أن عجزت رصاصاتهم وأيديهم عن اغتيالي، لأنني كنت أتحصن بساحة الحبوبي التي تحولت الى أيقونة التظاهر في ذي قار ولا أغادرها”.
بمجرد تلقيه التهديد عبر اتصال هاتفي، تسلل أبو حليمة، من ساحة التظاهر إلى منزله. وغادر مع زوجته وطفليه بالثياب التي عليهم: “كان الوقت منتصف النهار نهاية شهر شباط/ فبراير 2020 توجهنا مباشرة الى بغداد ولم نبق فيها سوى نصف ساعة فقط، ومن ثم انطلقنا بسيارة خاصة إلى السليمانية”.
أبو حليمة يقول إن تلك التهديدات التي وردته مصدره معظمها أرقام هواتف إيرانية، “لكن لهجة المتحدث كانت عراقية على الدوام”.
يمضي أبو حليمة أياماً صعبة في ملجئه. فهو لم يتمكن، للشهر الثاني على التوالي، من دفع بدل إيجار البيت الصغير المؤلف من غرفة واحدة وصالة، حيث يسكن مع عائلته بمبلغ 200 ألف دينار (نحو 160 دولاراً).
100 صحافي وناشط من جنوب العراق في السليمانية، يعيشون ظروف قاسية
هنالك على حد علم أبو حليمة نحو 100 صحافي وناشط من جنوب العراق في السليمانية، يعيشون الظروف القاسية ذاتها. لكنه وبخلاف كثيرين غيره، رفض فرصة للهجرة الى خارج العراق قدمتها له منظمة دولية. لأنه يعتقد بأن ذلك يعني ان المليشيات حققت أحد أهدافها الرئيسة “هذا ما يريدونه، أن نموت أو نترك البلاد”.
وتسجل ذاكرتهُ قيام الميليشيات باغتيال شباب بارزين في ساحات التظاهر في محافظته ومنهم أزهر الشمري، علي العصمي، علي الخفاجي، حسن المهلل وآخرين، في مشهد متكرر: “عناصر يحملون مسدسات مزودة بكواتم صوت، يترجلون من سيارات نوافذها داكنة ولا تحمل أرقام تسجيل. يقتلون أو يخطفون ثم يختفون بكل بساطة، لتعلن الجهات الأمنية بعد ساعات عن فتح تحقيقات تظل مفتوحة إلى الأبد من دون الوصول إلى اية نتائج”.
ويتحدث عن وسيلة أخرى اعتمدتها الميليشيات لإسكات المحتجين جنوب العراق من خلال اللجوء إلى شيوخ العشائر. يقول: “قدمت لهم المال والنفوذ في السلطة وكسبت ولاء كثر منهم ضد النشطاء، ومن يرفض يواجه التهديد”، مذكراً بالرسالة التي وجهها زعيم التيار الصدري الى شيوخ العشائر مطالباً إياهم وبنحو علني “بالكف عن دعم ومساندة التظاهرات”. لكنه يستدرك: “البعض رفض التعاون مع الميليشيات وفي مقدمتهم الشيخ حسين الخيون وهو من الشخصيات العشائرية البارزة في ذي قار”.
واقع الصحافيين لم يتغير
تفتقر السليمانية الى وجود مؤسسات إعلامية ناطقة باللغة العربية وهذا ما يصعّب الحياة المعيشية بالنسبة إلى الصحافيين النازحين اليها، فلم يجد سوى قليلين منهم عملاً بصفة محرر أخبار أو معد تقارير وبرواتب شهرية لا تتجاوز في احسن الأحوال الـ500 دولار.
على رغم ذلك يفضلها الصحافيون على بقية مناطق الإقليم، خصوصاً أن المدينة كانت في أوقات سابقة ملاذاً للصحافيين والنشطاء الهاربين من العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى خوفاً من عمليات التصفية على يد فصائل مختلفة الولاءات. فقد لجأ صحافيون كثر إليها بعد عام 2003 وفي فترة الاقتتال الطائفي بين عامي 2006 و2008 وبعدها خلال سنوات تعاظم نفوذ تنظيمي “القاعدة” و”داعش” في المناطق السنية.
هناء رياض
تقول الصحافية البغدادية هناء رياض التي تسكن السليمانية منذ عام 2007 عقب تعرضها مع زملاء لها لهجوم من تنظيم “القاعدة”، استهدف إذاعة دجلة في بغداد، إن واقع الصحافيين لم يتغير فهم منذ 17 عاماً يُستهدفون بالقتل والخطف ومن جهات مختلفة.
وحتى بعد مرور 13 عاماً ما زالت رياض تحتفظ في ذاكرتها بشريط أحداث ذلك اليوم، حين شن التنظيم هجوماً بسيارات مدججة بأنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة كأنها تقاتل أحد جيوش العالم بقصد السيطرة على مبنى المؤسسة، لكنهم فشلوا نتيجة المقاومة التي أبداها الحراس وتمكن العاملون، من الهرب عبر أسطح المنازل القريبة، وكان لها الحظ في أن تكون من بينهم.
ترى رياض أن إقليم كردستان لا يزال يسمح بمساحة حرية أوسع، على رغم بعض الانتهاكات التي تسجل في الإقليم، من غلق بعض المؤسسات ومحاولة تكميم أفواه المعارضين للسلطة من أفراد ومؤسسات.
لكن استقلالية الإقليم الادارية والأمنية عن بقية مناطق البلاد، هو الذي جعله ملاذ الصحافيين الهاربين من التصفية خصوصاً بعد تحول بغداد، التي تضم أكبر عدد من المؤسسات الإعلامية والوكالات ومقرات الصحف، إلى ساحة للاغتيالات، مع اشتداد تظاهرات تشرين وتعرض مؤسسات إعلامية معروفة لهجمات فصائل مسلحة وتحت مرأى الأجهزة الأمنية كما حصل مع قناتي “NRT” و”دجلة” وغيرهما.
إقليم كردستان لا يزال يسمح بمساحة حرية أوسع، على رغم بعض الانتهاكات التي تسجل فيه
يسرد الصحافي بكر (اسم مستعار، 25 سنة) تفاصيل اعتقاله من قبل عناصر ميليشيات يرفعون رايات الحشد الشعبي، وذلك بعد سلسلة من تهديدات بالقتل التي تلقاها عبر الهاتف وعبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب دعمه الاحتجاجات، “في 28 تشرين الأول 2019 اعتقلتنا قوة مسلحة أنا ومجموعة من الصحافيين ونحن في طريقنا إلى ساحة التحرير. مضى يوم كامل من التحقيق رافقه سيل من التهديدات والمضايقات، ثم أطلقوا سراحنا بعد إجبارنا على كتابة تعهدات خطية بعدم المشاركة في التظاهرات مجدداً”. ثم بعدها بأيام تلقى بكر مع زملائه جميعاً تهديدات عبر الهاتف، “تتوعد باختطافنا وقتلنا إذا لم نكف عن الكتابة عن التظاهرات وإذا واصلنا نقل مطالب المحتجين وحراكهم”.
على إثر ذلك غادر بكر ومعه 9 صحافيين آخرين بغداد باتجاه السليمانية ليواجهوا هناك صعوبات مختلفة بعد فقدان وظائفهم، وفي ظل انعدام فرص العمل في السليمانية وتكاليف المعيشية وعدم حصولهم على أي دعم من الحكومة أو المنظمات. فيما اضطر اثنان منهم للهجرة إلى خارج العراق، فسافر أحدهم إلى تركيا والآخر إلى الأردن، “مدفوعين بتهديدات وصلتهم من كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، وهما أكثر فصيلين يمارسان التهديد ضد الصحافيين والنشطاء”.
“ما لا يمكن احتماله، هو أن تذهب كل تضحيات أصدقائنا هباءً في ظل محدودية الإنجازات المتحققة مع استمرار القوى ذاتها في الحكم”
لا تملك “نقابة صحافيي كردستان” الكثير لتقدمه لهؤلاء. يقول نقيبها أزاد حمه أمين: “تعاملنا بمهنية مع قضية التهديدات التي طاولتهم بعد تظاهرات تشرين، وتواصلنا مع قوات الآسايش (جهاز الأمن) لتسهيل إجراءات سكنهم، إلى جانب تأمين مساعدات مادية لهم تبرعت بها منظمات دولية”.
يمضي الصحافيون والنشطاء المطاردون في بلدهم، أياماً عصيبة مع مرارة الخيارات المتاحة أمامهم بين التخفي الدائم بعيداً من عيون الميليشيات ورصاصاتهم الكاتمة، أو الهجرة والاغتراب لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، أو النزوح إلى إقليم كردستان ومواجهة العوز في ظل أزمة اقتصادية خانقة هناك.
“كل ذلك يمكن احتماله”، يقول صحافي بارز، تردد اسمه ضمن قوائم الموت التي تنشرها الميليشيات. يضيف متحدثاً عبر الهاتف من خارج العراق، “لكن ما لا يمكن احتماله، هو أن تذهب كل تضحيات أصدقائنا هباءً في ظل محدودية الإنجازات المتحققة مع استمرار القوى ذاتها في الحكم. كل ليلة نعيش الرعب والخيبة ونحن نتذكّر وجوه أولئك الذين تركونا إلى الأبد”.
- انجز هذا التقرير بدعم من مؤسسة “نيريج” للصحافة الاستقصائية