الانتخابات الإيرانية... الاستقطاب القومي في الدولة العميقة

2024-07-04 07:15:07

عربية DRAW

رستم محمود - المجلة

 

خلال المناظرة الانتخابية الرئيسة على التلفزيون الرسمي، قبل إجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الإيرانية بيومين فحسب، سُئل المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان عن سبب كون أكثر أنصاره من "الأتراك القوميين"؟

لم يُنكر المُرشح المنحدر من أبناء القومية الأذرية/التركية الأمر، مُردفا: "إذا كانت هناك مطالبات ومناقشات حول القومية التركية أو القومية العربية أو غيرها من الحركات القومية المختلفة، فهذا بسبب الظلم. عندما لا يكون لأي من أبناء هذه الحركات والجماعات مكان في الحكومة والسلطة، بغض النظر عن مدى مواهبهم ومؤهلاتهم، ولا يزالون يفتقرون تماما للتمثيل السياسي، فمن الطبيعي أن يعبروا عن مظلوميتهم بطريقة قومية".

 

عقب صدور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، التي جرت في 28 يونيو/حزيران الماضي، وحصول بزشكيان على المركز الأول بأكثر من 10.4 مليون صوت، وحلول المرشح المتشدد سعيد جليل على المركز الثاني، المنحدر من مدينة مشهد، شمال شرقي البلاد، والمقرب جدا من المرشد الأعلى علي خامنئي، سارع المرشحان الآخران، رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، الذي حصل على المركز الثالث بـ3.3 مليون صوت، والحاصل على المركز الرابع مصطفى بور محمدي، إلى إعلان تأييدهما للمرشح سعيد جليلي في الجولة الثانية من الانتخابات، التي ستجرى يوم الجمعة. حيث إن هذين المرشحين الأخيرين، ولغير صدفة، ينحدران من مدينة مشهد، التي تُعد مسقط رأس المرشد الأعلى والمرشح الفائز في الجولة الأولى سعيد جليلي.

تكشف الحادثتان، ومثلهما أخرى كثيرة، وجها آخر للمزاحمة السياسية الراهنة في إيران، وهي ليست مجرد صراع بين التيار المتشدد، الذي على اليمين من خطاب وخيارات النظام الحكام، والتيار الإصلاحي، الراغب في استخدام أدوات أكثر مرونة وحيوية في التعامل مع الملفات الإقليمية والدولية، لتكون إيران أقل صدامية مع العالم الخارجي، واتباع سياسات داخلية أكثر ليناً، تحديدا مع النساء والشباب والحركات المدنية، بغية الحفاظ على قبول نسبي للنظام الحاكم في الداخل.

ومن خلال متابعة النقاشات غير الرسمية، على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، يبدو الاستقطاب القومي والمناطقي واضحا في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الإيرانية. فالمرشح سعيد جليلي يمثل المركز السياسي الأساسي في البلاد، بجذوره الفارسية واعتداده بها، يصنف نفسه كواحد من أشد المدافعين عن النظام المركزي الحاكم، وأحد الأعضاء البارزين في "حلقة مشهد"، التي استحوذت فعليا على حُكم إيران طوال العقدين الماضيين، مع تهميش وعدم اعتراف تام بوجود أية قضايا قومية أو مناطقية في البلاد.

على العكس منه تماما، فإن المرشح بزشكيان، المولود في مدينة مهاباد، في أقصى غربي البلاد، ذات الأغلبية الكردية المطلقة وعاصمة الجمهورية الكردية التي أُعلنت واستمرت لوقت قصير عام 1946، من والد أذري/تركي وأم كردية، يتقن إلى جانب الفارسية اللغتين الكردية والأذرية، ويعبر بوضوح عن دعمه لتغيير سياسات إيران الداخلية، لتكون أقل مركزية في فارسيتها وأكثر تنوعا قوميا، تحديدا في مجالات التعليم والثقافة والإعلام والعلاقات الإقليمية.
مخزن الدولة العميقة

بغية تحديد مكانته ضمن المنظومة الحاكمة للبلاد، يصف مصطفى فقيهي، رئيس تحرير موقع "انتخاب" الإخباري الإيراني، المرشح سعيد جليلي قائلا: "لم يكن يوما بحاجة إلى موقع مسؤول ليمارس دورا، لأنه فعليا كان المنظر المرشد للكثير من السلوكيات الحكومية". فجليلي طوال مسيرته السياسية، سار وشغل مواقع قيادية في الأجهزة والمؤسسات المركزية في البلاد، التي تُمثل فعليا الدولة العميقة والسلطة الحقيقية في البلاد. تلك الجهات التي يعتبرها المراقبون متمركزة ومستندة على ثلاث عصبيات أهلية رئيسة في تحكمها بمركز السلطة: القومية الفارسية والطائفة الشيعية والمناطق الشمالية الشرقية من البلاد.

فجليلي خلال يفاعته كان مقاتلا وقائدا بارزا ضمن ميليشيات الباسيج، التي لعبت دورا محوريا خلال الحرب الإيرانية العراقية، حيث فقد جليلي أحد ساقيه خلالها، حينما كان في الحادية والعشرين من عمره فحسب، وتحول بسبب ذلك إلى واحد من القادة السياسيين والرموز الداخليين للنظام، يُطلق عليه لقب "الشهيد الحيّ". مطورا خلال السنوات اللاحقة علاقة خاصة مع واحد من أهم المنظرين الأساسيين للنظام، الشيخ محمد تقي مصباح يزدي، حيث صار جليلي الناطق السياسي باسمه. وفي فترة لاحقة صادق نجل المرشد الأعلى مُجتبى خامنئي، ليكونا معا تيار "الأصولية الجديدة"، المستندة على تلك العصبيات المركزية في بنية النظام.

وطوال ثلاثة عقود لاحقة، شغل جليلي مناصب في مؤسسات مرتبطة بالمرشد الأعلى مباشرة، حتى ضمن السلطات الحكومية، فإنه كان يعمل باعتباره "رجل المركز" ضمن هذه المؤسسات. فجليلي كان أصغر من شغل "مدير قسم" في وزارة الخارجية الإيرانية طوال تاريخها، حينما عُين عام 1996 مسؤولا عن التفتيش في الوزارة، ولم يكن عمره قد تجاوز 26 عاما، ثم بعد سنوات قليلة تسلم أهم منصب في الوزارة، نائبا للوزير لشؤون أوروبا والولايات المتحدة.

وقبل أن يبلغ الأربعين من عمره، صار جليلي أمينا عاما للمجلس الأعلى للأمن القومي، باختيار من المرشد علي خامنئي، مترئسا البرنامج والمفاوضات النووية الإيرانية مع المجتمع الدولي. وبعد أكثر من سبعة أعوام من شغله لمنصبه، عزله الرئيس المُعتدل حسن روحاني عام 2013، لأنه كان أحد المرشحين المنافسين له في انتخابات ذلك العام. وعاد المرشد خامنئي وعين جليلي عضوا في "المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية" عام 2014، ومن ثم رئيسا له. كذلك حفظ له المرشد موقعه في "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، كواحد من ممثلي المرشد في ذلك الجهاز، ومديرا لمكتب المرشد في مرحلة لاحقة.
استنفار القومية الفارسية

في حديث مع "المجلة"، يشرح الباحث شفان رسول ما يعتبرها الآليات التي سيستخدمها المرشح جليلي، لجذب أصوات القواعد الاجتماعية المحافظة والمركزية ضمن المنظومة الحاكمة، تحديدا في أبناء القومية الفارسية والمؤسسات المرتبطة بالمرشد الأعلى، ويضيف قائلا: "ثمة حملات منظمة على وسائل التواصل الاجتماعي، تحذر من تنامي المشاعر القومية، وتربطها بالانفصال ومحاولة تفكيك إيران. جزء واسع من هذه الحملات لا تذكر المرشح بزشكيان وأبناء القومية الأذرية/التركية بالاسم، لكن الأمور أكثر وضوحا من أن تُخفى. فحملة المرشح جليلي تلوم المرشح قاليباف، لأنه لم ينسحب لصالح جليلي، كما فعل جليلي نفسه عام 2021 لصالح المرشح إبراهيم رئيسي، وتاليا سمح قاليباف حسبها بتشتت أصوات أبناء القومية الفارسية والمنخرطين في مؤسسات الحُكم والسلطة، وبذا منعت المرشح المركزي المتشدد من حسم المعركة الانتخابية من الجولة الأولى".

ويضيف الباحث رسول في حديثه مع "المجلة" قائلا: "صحيح، لا يذكر أعضاء النواة الصلبة من الحُكم هويتهم القومية الفارسية، لكنهم فعليا بإصرارهم على تثبيت أركان الدولة المركزية والحفاظ على التفاوت الدستوري غير العادل بين الفرس وباقي القوميات في البلاد، واتهامهم لأية ميول ثقافية أو مطالبات ذات نزعة محلية أو قومية بأنها (بؤرة قومية انفصالية)، إنما يُثبتون تفوق القومية الفارسية على غيرها، واستئثارها بالحُكم وإشعار أبناء باقي القوميات بعدم الجدارة. خلال العقد الماضي، خصوصا بعد المظاهرات المطلبية المتلاحقة في كل مناطق السور القومي جنوب وغرب إيران، خرجت الأمور عن إمكانية التغطية، وصار أعضاء النواة الحاكمة يستخدمونها كأداة لإشعار الإيرانيين الفرس بالخطر، كان التفاف كل المُرشحين الخاسرين حول جليلي، فقط لهزيمة بزشكيان دلالة على ذلك. يشبه الأمر في بُعد منه ما يفعله الرئيس ترمب خلال حملته الانتخابية، من إشعار الناخبين الأميركيين البيض من خطورة تمس حياتهم".

على العكس تماما، فإن المرشح الفائز في الجولة الأولى مسعود بزشكيان لم يسبق له أن كان عضوا في أي من الأجهزة والإدارات المركزية في البلاد، حتى حينما شغل منصب وزير الصحة في حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، فإنه كان مجرد فاعل بيروقراطي، لم توفره مؤسسات الدولة العميقة، موجهة إليه اتهامات لا تُحصى، لكن دون تقديم أية أدلة أو مواجهة قضائية.


    بزشكيان لا يخفي أصوله القومية الأذرية/التركية والكردية المشتركة

 

لا يخفي بزشكيان أصوله القومية الأذرية/التركية والكردية المشتركة، ولا ينكر مواقفه المؤيدة لإعادة صياغة نوعية التوازن القومي بين الفرس وباقي القوميات الإيرانية، من أذر وأكراد وعرب وبلوش، مطالبا أن تكون لغاتهم القومية رسمية في مناطقهم، وجزءا من منظومة التعليم الرسمية إلى جانب الفارسية. لا يريد بزشكيان أن يظهر في موقع المعارض الجذري لمنظومة الحُكم، فيستند في دعواته إلى البنية الدستورية، التي يقول إنها لا تُطبق حرفا وروحا، تحديدا المادة 15 من الدستور، التي تنص على أن "اللغة والكتابة الرسمية والمشتركة لشعب إيران هي اللغة الفارسية. ويجب أن تكون الوثائق والمراسلات والنصوص الرسمية والكتب المدرسية بهذه اللغة والكتابة، ولكن مع استخدام اللغات المحلية والعرقية في الصحافة ووسائل الإعلام الجماهيرية وتدريس أدبهم في المدارس مجانا، إلى جانب اللغة الفارسية".

يتهم بزشكيان السلطات بعدم تطبيق هذه المادة الدستورية في أي وقت من عمر "الجمهورية الإسلامية"، مضيفا أنه حتى في حال تطبيقها، فإنها لا تقدم مساواة بين أبناء مختلف القوميات الإيرانية، معتبرا سوء المساواة هي الأداة التي تخلق الأعذار للمنشقين والانفصاليين من كل الجماعات.

بشخصيته وسيرته الذاتية، كجراح قلب شهير وأب، رفض الزواج مرة أخرى بعد رحيل زوجته وأحد أطفاله بعد حادث سير قبل أكثر من ربع قرن، مفضلا التفرغ العائلي لتربية أبنائه الثلاثة الباقين، ودفاعه عن الحقوق الثقافية واللغوية لكل المواطنين الإيرانيين، أيا كانت هوياتهم العرقية، ونقده الدائم للسلطات الأمنية التي تستخدم العنف المفرط مع المتظاهرين، ورفضه لفرض الحجاب على النساء، لأنه قد يُبعدهن عن الدين حسب رأيه، وطرحه لأسس أكثر عقلانية للعلاقة مع الغرب، يُقدم بزشكيان نموذجا مختلفا تماما عن البيئة المحافظة والمتشددة التي تُسيطر على رئاسة الجمهورية والبرلمان في إيران منذ قرابة عقدين من الزمن.

وحسب متابعي الشأن الداخلي الإيراني، فإن أشد ما يثير حفيظة رأس الحُكم في إيران هو قدرة المرشح بزشكيان خلال الجولة الثانية على جذب أصوات ثلاثة أطراف/جماعات داخلية إيرانية لصالحه، وهو الذي كانت نتيجته بالحصول على المركز الأول في الجولة الأولى أمرا مفاجئا تماما. فقدرة بزشكيان على التعبير بوضوح عن مظلومية أبناء القومية الأذرية/التركية، وهؤلاء يُقدرون بأكثر من ربع سكان البلاد، قد يجذب إليه أصوات باقي المجموعات العرقية ذات الجذور التركية، مثل تركمان شرق إيران والأتراك القشقابيين في الوسط وأتراك خرسان، وإلى جانبهم مجموعات تركية أصغر حجما، مثل أتراك الخلاج والكازاخ. فهذه الكتلة التركية تكاد أن توازي بعددها نظيرتها الفارسية، ووجود عصبية قومية أو مطلبية توحدهم خلف مرشح رئاسي، قد يخلق أزمة عرقية داخلية.

إلى جانب هؤلاء، فإن نوعية المطالب الثقافية واللغوية وحتى التنموية غير المركزية التي يضعها بزشكيان كبرنامج سياسي لنفسه، قد تُغري باقي القوميات الإيرانية، تحديدا الأكراد والعرب، المناهضين جذريا للنظام المركزي ونواته الصلبة. وإلى جانب هاتين المجموعتين فإن الإصلاحيين المقموعين والمهمشين، تحديدا من الشباب والنساء، قد يندفعون بكثافة لتأييد بزشكيان.

يبقى السؤال الرئيس والأكبر خلال الأيام القادمة: كيف ستتغير إيران لو فاز مرشح بكل هذه الصفات والتطلعات مثل بزشكيان؟ وماذا سيجري لو اتخذت السلطة الحاكمة إجراءات مثلما فعلت أثناء انتخابات عام 2009، حينما غيرت نتيجة الانتخابات لصالح المرشح المتشدد أحمدي نجاد، الأمر الذي أدى لاندلاع "الثورة الخضراء"؟

بابه‌تی په‌یوه‌ندیدار
مافی به‌رهه‌مه‌كان پارێزراوه‌ بۆ دره‌و
Developed by Smarthand