أزمة اقليم كردستان المالية بين الحسابات السياسية والاعتبارات الانسانية
2023-12-12 09:31:48
عربية:Draw
منذ بضعة اعوام، يعاني ملايين الناس في اقليم كردستان العراق اوضاعا حياتية صعبة للغاية، بسبب تلكوء وصول المستحقات المالية لاكثر من مليون موظف ومتقاعد بصورة شهرية منتظمة، ولان طبيعة الحراك الاقتصادي بشقيه الاستهلاكي والانتاجي متداخلة ومترابطة الى حد كبير، فأن "ازمة" الرواتب في الاقليم لم تقتصر وتنحصر في تداعياتها واسقاطاتها على الموظفين والمتقاعدين والفئات الاخرى التي تتقاضى رواتب حكومية، وانما امتدت الى مختلف الشرائح الاجتماعية. ولم تفلح الحلول والمعالجات الجزئية الترقيعية في احتواء وتطويق "الازمة" ان لم تكن قد زادت من تعقيداتها وتشابكاتها مع مرور الوقت.
ولاشك ان هناك جملة عوامل وظروف ساهمت بدرجات متفاوتة في ايجاد ازمة الاقليم المالية، ومن ثم تفاقمها، ومن بين تلك العوامل والظروف، طبيعة العلاقة المضطربة والمتذبذبة بين السلطة الاتحادية في بغداد من جهة، والحكومة المحلية في اقليم كردستان من جهة اخرى، تلك العلاقة التي اتسمت على طول الخط بضعف-او انعدام الثقة-الامر الذي تسبب في بقاء مختلف الملفات مفتوحة، كملف المناطق المتنازع عليها، وملف قانون النفط والغاز، وملف الموارد المالية وكيفية التعاطي معها وتوزيعها، ناهيك عن عدم تبلور صيغة النظام الفيدرالي الذي يحدد ويرسم الحدود الفاصلة بين وظائف ومهام وصلاحيات وحقوق كل من المركز والاقليم، بالشكل الصحيح، ويترجم نصوص الدستور النظرية الى واقع عملي على الارض. فضلا عن الاخفاق بتنفيذ مختلف الاتفاقيات والتفاهمات المبرمة بين الطرفين.
وارتباطا بذلك، فأن حلقات وشبكات الفساد الاداري والمالي، والبيروقراطية المقيتة، والحسابات السياسية الضيقة، في منظومات السلطة الاتحادية، ومثلها تقريبا في اقليم كردستان، الى جانب تعدد مراكز القوى وتقاطع المصالح والاولويات في بغداد، والخلافات والصراعات الداخلية في الاقليم، والمؤثرات الخارجية الاقليمية والدولية، ساهمت جميعها في ايجاد الازمة، وفي اوقات لاحقة، بصعوبة التوصل الى حلول ومعالجات واقعية وعملية وجذرية لها
اضف الى ذلك، فأن الازمات الاقتصادية المتمثلة في التراجع الحاد بأسعار النفط في بعض الاوقات، وتأثيرها المباشر والسريع على مجمل الوضع العراقي العام، ومن ضمنه اقليم كردستان، كان لها دور-ربما غير قليل-في ازمة الاقليم المالية، وهذا شيء طبيعي بالنسبة لعموم العراق، الذي يعتمد بصورة شبه كلية على النفط، بحيث ان اي اختلال وتراجع في اسعاره عالميا، ينعكس سلبا خلال وقت قصير جدا، خلافا للعديد من الدول النفطية الاخرى، التي تمتلك موارد مالية الى جانب العائدات النفطية، فضلا عن الاستقرار السياسي والامني الذي تتمتع به، فيما يفتقده العراق منذ عقود.
ليس هذا فحسب، بل ان موجة الارهاب الداعشي التكفيري التي اجتاحت مدن ومناطق عديدة من البلاد في صيف عام 2014، اربكت الاوضاع الحياتية العامة، ولم يكن اقليم كردستان بعيدا عنها، ان لم يكن قد تأثر بها بدرجة اكبر من بعض محافظات البلاد، نتيجة نزوح اعداد هائلة من ابناء المدن التي دخلها تنظيم داعش، الى محافظات الاقليم، ليخلق ذلك مزيدا من الضغوط المالية على سلطة الاقليم.
ولعل الحقيقة الشاخصة والواضحة للكثيرين، هي انه لايمكن لاي طرف ان يتنصل عن مسؤوليته عن الازمة، ويلقي باللائمة على الطرف الاخر، في ذات الوقت، فانه من غير الممكن لاي منهما، سواء الحكومة الاتحادية او حكومة الاقليم، ان تبلور حلولا ومعالجات عملية بمعزل عن الاخرى.
فمثلما ان الطرفين مسؤولان بقدر معين، وارتباطا بظروف ومبررات ودواعي مختلفة، عن الازمة، فكلاهما معنيان بايجاد الحلول المطلوبة لها، تلك الحلول التي تفضي الى انهاء معاناة الناس في اربيل ودهوك والسليمانية، او على الاقل، التخفيف منها الى اقصى قدر ممكن.
والمدخل الصحيح والطريق المختصر لذلك، يتمثل بوضع الحسابات والاشكاليات والمصالح والمناكفات والتراكمات السياسية جانبا، والتعاطي مع الازمة ببعدها الانساني البحت، الذي يضمن تسلم متقاضي الرواتب في الاقليم لرواتبهم بصورة شهرية منتظمة، اسوة بنظرائهم في العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب. لان التوصل الى تفاهمات وتوافقات شاملة بين بغداد واربيل حول كل القضايا والملفات السياسية والامنية والاقتصادية مرة واحدة، يبدو امرا صعبا للغاية، ان لم يكن بعيد المنال.
واغلب الظن، ان لدى كل من بغداد واربيل، تصورات ورؤى عن كيفية فصل ملف رواتب موظفي ومتقاعدي الاقليم عن الملفات الاخرى، وهذا امر جيد، بيد ان مجمل المعطيات تؤكد ان هناك تباينا غير قليل بين تصورات ورؤى كل من الطرفين، بفعل اسقاطات المواقف والحسابات السياسية غير البعيدة عن ضعف او انعدام الثقة، الى جانب حقائق الارقام التي يمتلكها كل طرف في قبال الطرف الاخر.
اعطاء الاولوية للاعتبارات الانسانية، مع الاخذ بنظر الاعتبار حقيقة ان الرواتب تعد حقوقا وليست منحا او هبات تقدمها الحكومة الاتحادية او الحكومة المحلية لمستحقيها. مع التعاطي بمرونة وتقديم التنازلات المتبادلة الممكنة والمتاحة، دون الابتعاد عن المحددات والضوابط الدستورية والادارية السليمة، يمكن ان يفضي للتوصل الى مخارج وحلول ومعالجات مقبولة ولو بالحد الادنى، وترك الملفات الاخرى مفتوحة للبحث والتفاوض والنقاش الطويل.
قد تمثل اجواء العلاقات الايجابية بين بغداد واربيل في ظل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، ارضيات مناسبة لحلحلة "ازمة" رواتب الاقليم من باب الاعتبارات الانسانية بعدما فاقمتهما وعقّدتها و"شربكتها" الحسابات السياسية، والملفات المستعصية، والثقة المفقودة!. وكل ذلك لن يتحقق الا بتوفر النوايا الصادقة، والتوجهات السليمة، والارادات الجادة.