إشعال السماء”: حقول نفط البصرة تفتك بجيرانها
2024-10-01 18:49:23
عربية:Draw
فاضل وفاطمة أصيبا بمرض غريب، ورقية استأصلوا كليتها، وعائلة الصافي قضت نحبها، رغد يتمنى أن تعيش بناته الخمسة حياة رغيدة، وخطار فقد زوجته الأولى ويكافح للحفاظ على الثانية، وآخرون يلاحقون الشركات النفطية.
الكثير من الحالات المرضية تظهر في منطقة جنوب العراق بالقرب من مدينة البصرة، وتحديداً في المناطق السكنية القريبة من حقلي الرميلة والزبير وحقول أخرى، التي تُسجل فيها أكثر النسب ارتفاعاً لحرق الغاز حول العالم.
يتناول هذا التحقيق حرق الغاز في منطقة جنوبي العراق، ويأتي في سياق سلسلة من التحقيقات الاستقصائية ضمن مشروع “إشعال السماء” العابر للحدود، حول حرق الغاز أو ما يُعرف بالـ flaring، وهو عملية حرق الغاز الطبيعي المصاحب لاستخراج النفط، بقيادة (European Investigative Collaborations EIC) وبالتعاون مع منظّمة التحقيقات البيئية ((Environmental Investigative Forum (EIF) وعدد من المنصّات الإعلامية من بينها موقع “درج”.
يتناول المشروع انبعاثات حرق الغاز في 18 دولة في أفريقيا والشرق الأوسط. قام فريق المشروع بدمج بيانات انبعاثات حرق الغاز من “Skytruth” مع خرائط الامتيازات/ التصاريح النفطية والغازية، وذلك لحساب انبعاثات حرق الغاز السنوية لكل أصل (حقول النفط والغاز، المصافي، مصانع الغاز الطبيعي المسال…) في دول عدّة من بينها العراق بين عامي 2012 و2022.
لم يكن الأب الأربعيني حسن عبد الأمير يعلم أن الحقول النفطية المحيطة بمنطقة سكنه يمكن أن تتحول إلى وبال وشر مستطير عليه وعلى عائلته وأطفاله، فهو يسكن في منطقة الشرش الواقعة إلى الجنوب من مركز قضاء القرنة، التي تحيط بها ثلاثة حقول نفطية ضخمة.
كان حسن يأمل أن توفر تلك الحقول خيراً وفيراً وحياة مرفهة وعيشاً هانئاً له ولأبنائه وأهل منطقته، غير أن الأمور جاءت على عكس ما كان يتمنى ويتوقع، فقد أصابه شرها بالمباشر، وتسببت الغازات المنبعثة منها واشتعالات النار التي لا تنطفئ ليلاً ونهاراً فيها، بإصابة أولاده بصحتهم، فحولت جسدي ابنه فاضل وابنته فاطمة إلى اللون الأسود وملأتهما بالقروح والانتفاخات، بعدما أصابهما مرض غريب ونادر عجز الأطباء عن تشخيصه وعلاجه، في حين تقرحت عينا أمهما حزناً عليهما، فقد حرم هذا المرض الطفلين من متعة الطفولة ولذة الدراسة والصداقة واللعب مع أترابهما.
يحمّل حسن وهو موظف متقاعد لأسباب مرضية، انبعاثات حقول غرب القرنة، ومواقع الطمر الصحي، ومعامل الإسمنت والإسفلت مسؤولية المآل الذي آل إليه ولديه، ويؤكد أن الأدوية التي يتناولانها لا فائدة منها، وأنها علاج موقت.
بيانات المشروع ومأساة حرق الغاز في جنوب العراق!
على الرغم من أن العراق هو من بين الدول الموقعة على مبادرة البنك الدولي للقضاء على الحرق الروتيني (ZRF) التي تتعهد بإنهاء الحرق الروتيني بحلول عام 2030، إلا أن بيانات المشروع تشير إلى أن إجمالي حجم الحرق في العراق زاد عما 10.9 مليارات متر مكعب في عام 2012 إلى 15.8 مليارات متر مكعب في عام 2022، مسجلاً أعلى مستوى له عند 16 مليار متر مكعب في عام 2021. وقد نتج عن ذلك انبعاث 28.2 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون في عام 2012 و40.8 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون في عام 2022.
وتشير دراستنا إلى أن المواقع/ التراخيص التالية في العراق كانت تنتج مستويات عالية من الحرق لسنوات عديدة، مما يشير إلى أن مشغلي هذه التراخيص كانوا يقومون بالحرق الروتيني من 2012 حتى 2022:
الرميلة (تشغله BP) بمستوى حرق إجمالي حوالي 41 مليار متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 105.8 ملايين طن.
الزبير (تشغله ENI) بمستوى حرق إجمالي حوالي 20.2 مليار متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 52.2 مليون طن.
كركوك (تشغله شركة نفط الشمال) بمستوى حرق إجمالي يبلغ 16.4 مليارات متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 42.4 ملايين طن.
غرب القرنة 2 (تشغله Lukoil) بمستوى حرق إجمالي يبلغ 11.5 مليارات متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 29.6 ملايين طن.
الحلفاية (تشغله Petrochina وTotal Energies) بمستوى حرق إجمالي يبلغ 9.2 مليار متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 23.8 ملايين طن.
حقل ميسان (برغزان/ بازركان) بمستوى حرق إجمالي يبلغ 8.1 مليار متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 21 مليون طن.
غرب القرنة 1 بمستوى حرق إجمالي يبلغ 7.8 مليارات متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 20.1 مليون طن.
مجنون (تشغله Shell) بمستوى حرق إجمالي يبلغ 5.9 مليارات متر مكعب وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ 15.2 مليون طن.
كما يتّضح من اللائحة أعلاه أن الكثير من الشركات الأجنبية، لا سيما الأوروبية منها، تمارس الحرق في العراق، على رغم أن هذه الشركات ملتزمة بقوانين صارمة في بلادها وتلتزم باللوائح والإجراءات المتعلقة بالاستدامة وهي ملتزمة بمبادرة البنك الدولي.
حقل الحلفاية
أحد أكثر حقول العراق حرقاً للغاز هو حقل الحلفاية، الذي يقع على بعد 200 كلم من البصرة، وتملك فيه شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية 22.5%. إلا أن حقل الحلفاية ليس أكثر الحقول حرقاً في العراق فحسب، بل هو أيضاً أكثر الحقول تلوثاً من بين الحقول التي تملك فيها شركة “توتال” حصة.
على مدى العقد الماضي، بلغ مستوى الحرق الإجمالي في حقل الحلفاية نحو 9 مليارات متر مكعب، وأطلق الحقل نحو 23 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون، منها 3 ملايين في عام 2022 وحده.
في مقابلة لموقع “المربد” و”درج”، يقول كاظم دينار الذي يعيش في قرية المعيل بالقرب من حقل الحلفاية، إن ابنه جلال أصيب بسرطان الغدة الدرقية وتم استئصالها. بحسب دينار، يرجّح “الأطباء أن السبب المحتمل هو الهواء الملوث بسبب حرق الغاز".
في ردّ توتال على أسئلة فريق المشروع، وتحديدًا على حقل الحلفاية، اكتفت الشركة بالقول: “نشير إلى أن CNPC هي المشغل”.
دعوى ضد شركة “بي بي”
أبو علي أحد جيران الحقول النفطية، ولكن في منطقة الرميلة هذه المرة وليس في القرنة. الرجل فقد ابنه البكر علي الذي أُصيب هو الآخر بمرض السرطان، فأقام لأجل ذلك دعوى قضائية ضد شركة “بي بي” وهي واحدة من الشركات المشغلة لحقل الرميلة أكبر حقول النفط في العراق، ولكنه ما زال إلى الآن ينتظر رأي القضاء في محنته.
من جهتها ردت الشركة على أسئلة فريق المشروع بالقول: “لم تكن BP ولن تكون أبداً مشغلة لحقل الرميلة النفطي، كما أنه ليس لدينا أي مصلحة ملكية أو حقوق في الحقل أو أي حق في النفط الذي ينتجه”، مضيفة: “ومع ذلك، بصفتنا مساهمين في المقاول الرئيسي – شركة البصرة للطاقة المحدودة (BECL) – نواصل دعم جهود تقليل الحرق والانبعاثات في الرميلة، بالتعاون مع مشغل الحقل النفطي، هيئة تشغيل الرميلة (ROO)”، موضحة أن “هناك أيضاً عدداً من منشآت النفط والغاز في حقل الرميلة التي تُدار من قبل أطراف ثالثة ولا تشارك فيها الشركة، وهي مصدر للحرق ونعتزم مواصلة دعم BECL وROO في هذه الإجراءات، بالتعاون مع الحكومة العراقية وأصحاب المصلحة الآخرين”.
أمّا وفقًا لرد شركة إيني، “في حقل زبير العراقي، كانت إيني العراق مقاولًا منذ عام 2010 بموجب عقد خدمة فنية (TSC)، وبالتالي فإن إيني لا تملك ولا تشغل حقل زبير. شركة نفط البصرة (BOC)، بصفتها الطرف الأول، هي مالكة حقل زبير وأصوله، بما في ذلك النفط الخام والغاز المصاحب المنتج. تظل استراتيجية التطوير، بما في ذلك احتواء الانبعاثات، من صلاحيات شركة نفط البصرة.
يُدار الحقل بواسطة كيان غير ربحي يُسمى قسم تشغيل حقل زبير (ZFOD)، بدون صلاحيات اتخاذ القرار. شركة غاز البصرة لديها التزام تعاقدي بجمع الغاز المصاحب من زبير نيابة عن شركة نفط البصرة. رغم ذلك، تتعاون إيني العراق، في دورها الفني وبنهج استباقي، مع شركة نفط البصرة لتقليل وتقليص حرق الغاز وتعزيز قيمة الغاز المصاحب من خلال مشاريع تهدف إلى تحسين إدارة كميات الغاز المسلمة لشركة غاز البصرة.
تقوم إيني العراق بإجراء فحوصات ومراقبة مستمرة للمصفوفات البيئية الرئيسية في منطقة حقل زبير: الماء، والتربة، والهواء، والنشاط الإشعاعي الطبيعي، بفضل شبكات مراقبة مخصصة تم إنشاؤها على مر السنين بعد دراسات محددة. تتماشى نتائج البيانات المجمعة مع التشريعات العراقية والمعايير الدولية. بالإضافة إلى هذه الفحوصات، تُجرى مسوحات دورية للنظافة الصناعية ودراسات تقييم المخاطر الصحية. علاوة على ذلك، تراقب إيني العراق الامتثال البيئي وتستثمر في الرعاية الصحية في البصرة من خلال مبادرات مخصصة للتشخيصات الأورام والرعاية الصحية للأطفال ووحدة مسح PET الحديثة، باستثمار يتجاوز 32 مليون دولار أميركي… يمتد التزام إيني لدعم نظام الرعاية الصحية في البصرة ومواءمته مع المعايير الدولية”.
حالات متعدّدة
الطفلة رقية (9 سنوات) ذات الروح المرحة، تم استئصال إحدى كليتيها، وهي الآن تعيش بكلية واحدة، وأهلها يعيشون في خوف دائم من أن تُعطب كليتها الأخرى، لذلك يعاملونها معاملة خاصة. أما سبب استئصال كليتها فهو أن سرطاناً قد نهشها، ولم يكن أمام الأطباء من خيار إلا استئصال العضو المصاب حفاظاً على حياتها، أما سبب السرطان، بحسب ما يقول أهلها، فهو الغازات المنبعثة من حقول النفط المحيطة بهم.
ويؤكد رائد والد رقية أنهم لم يُشملوا بأية منحة أو مبادرة حكومية لتوفير العلاج.
مواطن آخر من المنطقة اسمه وجود الصافي خسر خمسة من أفراد عائلته، فيما يعاني ثلاثة آخرون من مرض السرطان. وجود يسأل “كيف يمكن لوزارة النفط أن تدفع 300 ألف دينار سنوياً لأشخاص محددين وهي لا تكاد تكفي لشراء علاج لأيام معدودات؟”، ويتابع “أين هي قطع الأراضي التي وعدتنا بها الحكومة؟ لا نريد أن نسكن في تلك الأراضي نريد أن نبيعها ونشتري بها علاجاً”.
ويوجه إلى الحكومة في البصرة عتباً، لأنها لم تبنِ مستشفى في قضاء القرنة يمكن معالجة الإصابات فيها، مما يضطر الأهالي إلى قطع عشرات الكيلو مترات للذهاب إلى أول مركز قريب إليهم في مدينة البصرة، لتلقي العلاج أو الجرعة الكيمياوية المطلوبة.
ويسأل أيضاً: “ما هو السر العجيب في أن يتم التحذير من دخان السجائر ولا يتم التحذير من فليرات أو شعلات النفط المجاورة لمناطقنا؟ ليش وزارة الصحة ما تكول أكو تلوث بالنفط؟ وزارة البيئة وينها؟”.
خرق القانون العراقي؟
لا بدّ من الإشارة إلى أنه لم يتم تمرير مسودة قانون النفط والغاز الفيدرالي المقترحة في عام 2011 في البرلمان العراقي، لكن العراق وضع هدفاً للقضاء على الحرق الروتيني في حقوله النفطية، كجزء من مبادرة البنك الدولي للقضاء على الحرق الروتيني في العالم بحلول عام 2030.
وفقا للدستور وللقوانين في العراق فإن من حق المواطن أن يعيش في بيئة آمنة نظيفة خالية من كل الملوثات. والمقيمون في مناطق قرب الحقول النفطية، هم في الحقيقة يقيمون على أراضيهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولا يمكنهم تركها أو هجرها، وبذلك تحولت النعمة التي كانوا يأملون منها كل خير إلى نقمة لا يمكن تحملها.
في ديسمبر/ أيلول من العام 2021، تعهد وزير النفط العراقي؟؟؟ بتخفيض حرق الغاز بنسبة 90% بحلول عام 2024. لكن بيانات المشروع تكشف عن معدلات حرق عالية، إضافة إلى قائمة بالمشغلين الأوروبيين الذين يمارسون هذه العملية في البلاد.
اعترف وزير البيئة العراقي السابق جاسم الفلاحي بأن التلوث الناتج عن إنتاج النفط هو السبب الرئيسي في زيادة معدلات السرطان المحلية، مشيراً بشكل خاص، إلى الحرق الغازي كمساهم كبير في زيادة خطر الإصابة بسرطان الدم في المجتمعات القريبة من حقول النفط في البصرة.
ويعزو تقرير مسرب من وزارة الصحة العراقية زيادة بنسبة 20% في حالات السرطان في البصرة بين عامي 2015 و2018 إلى تلوث الهواء، بما في ذلك الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز.
ووجدت الدراسات والتحقيقات، بما في ذلك تحقيق أجرته قناة “BBC”، مستويات عالية من البنزين والمواد الكيميائية المسببة للسرطان، في الهواء في المناطق المحيطة بالحقول النفطية، وفي عينات البول لدى السكان القريبين منها، مما يشير إلى وجود ارتباط قوي بين حرق الغاز وزيادة معدلات السرطان.
رغد الذي لم تعد حياته رغيدة
بالعودة إلى معاناة الأهالي جراء الانبعاثات النفطية، ففي قضاء الدير الواقع شمال البصرة حيث يقع حقل نهران بن عمر، يعيش رغد جاسم وهو منتسب في وزارة الداخلية وأب لـ 5 بنات. رغد هو الآخر ضحية من ضحايا نيران الحقول، فقد أصيب بانتفاخات وإمساك مزمن وحين راجع الجهات الصحية تم تشخيص حالته المرضية بالزائدة الدودية، وتم استئصالها بعملية جراحية، غير أن آلامه لم تختف، فراجع الأطباء مرة أخرى، الذين أكدوا له هذه المرة إصابته بسرطان القولون، فأُجريت له عملية أخرى واستأصل 83 سم من القولون.
وهنا بدأت رحلة رغد مع المعاناة والمرض والألم، متنقلاً بين العراق وإيران ولبنان منذ عام 2021 بحثاً عن علاج أو جرعة كيمياوية، يضاف إليها مصاريف لا طاقة له بها، ومنها أن كل جرعة كيمياوية ثمنها مليونان و100 ألف دينار، فضلاً عن الفحوصات ما بين تحاليل الدم وصور الرنين والأشعة والناظور والمفراس وغيره.
انتهت المرحلة الأولى من رحلة المرض، لكن بعد العام 2023 عاد الألم مرة أخرى، فسافر رغد إلى إيران، وهناك أعاد إجراء الفحوصات المطلوبة، التي أظهرت وجود انسداد وورمين، مما أدخله مرة ثانية في دوامة العلاج.
أمنية رغد حالياً، هي أن يتعافى بسرعة، ليتمكن من رعاية بناته الخمسة ويوفر لهن العيش الرغيد.
ومن نهر عمران في قضاء القرنة شمال البصرة، إلى الزبير في غرب البصرة حيث تنتشر الحقول النفطية وتحديداً في منطقة الشعيبة، حيث يسكن المواطن هادي خطار مرغماً، قرب الآبار النفطية بسبب طبيعة عمله.
الرجل فقد زوجته الأولى وهي أم لستة أطفال نتيجة إصابتها بالسرطان، ثم تزوج أخرى فأصيبت هي الأخرى بسرطان الثدي، لكنها تتابع العلاج بانتظام. يتحلى هادي بالكثير من الهدوء والبساطة مما يجعله لا يناشد ولا يطالب بشيء سوى توفير العلاج.
برغم أنه لا يمكن ربط كل حالات السرطان في جنوب العراق بحرق الغاز، لكن مما لا شك فيه أن معدلات حرق الغاز المرتفعة على مدى عقود، ساهمت بشكل كبير في هذا التردي الصحي.