العراق: مشروع قانون يشرّع اغتصاب الفتيات!
2024-08-08 19:25:29
خالد سليمان - صحافي وكاتب متخصص بشؤون البيئة والمناخ - درج میدیا
اليوم، وبعد مرور عقد كامل على الإعلان الرسمي الأول عن مشروع تقنين زواج الفتاة في عمر التاسعة، يعود شيعة السلطة في العراق تحت مظلة تحالف “الإطار التنسيقي الشيعي”، إلى إعادة تفعيل المشروع وتمريره وفق صفقة مع القوى السياسية السنية في مجلس النواب.
“قانون الأحوال الشخصية الجعفري جاء لإنصاف المرأة، وأعطاها امتيازات غير مسبوقة بخفض سن البلوغ والميراث إلى التاسعة، واعتبارها الوريث الشرعي الوحيد لأبيها إذا توفي، جاء لرفع الحيف والظلم الذي وقع على المرأة طيلة العقود الماضية، جراء القوانين الوضعية والتقاليد الاجتماعية المتخلّفة”، هذا ما قاله وزير العدل حسن الشمري في عيد المرأة العالمي لعام 2014.
في 10 حزيران/ يونيو من العام ذاته، أي بعد مرور خمسة أشهر على إعلان وزير العدل، احتلّ تنظيم “داعش” ثاني أكبر مدن العراق تاريخاً وتنوعاً وتأثيراً، الموصل، وأجزاء أخرى واسعة من البلاد، وكان ذلك الحدث المريع كفيلاً بتخدير مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية ووضعه طي الكتمان بانتظار الوقت المناسب، وكأن التراجيديا الإنسانية التي نجمت عن قسوة التنظيم المتطرف (داعش) في البلاد، وما تخلّلها من سبي الفتيات والنساء الإيزيديات واستعبادهن، كانت كفيلة بتأجيل تراجيديا أخرى من شأنها تقنين انتهاك حقوق الطفولة في العراق.
في عام 2017 حين اقترب العراق من نهاية “الانتصار” الموعود على “داعش”، انتهت صلاحية تخدير القانون في أدراج شيعة السلطة وخرج إلى العلن ثانيةً. ومنذ ذلك التاريخ، تبحث القوى الشيعية السياسية عن فرصة لتمرير المشروع وجعله قانوناً للشيعة. وعلى رغم الرغبة الجامحة لدى هذه القوى التي كان يجمعها “التحالف الوطني الشيعي” آنذاك، في إلغاء قانون الأحوال الشخصية العراقي تحت عنوان “التعديل”، بقي المشروع في دهاليز القوى الشيعية من دون نسيانه.
وكان للاحتجاجات الشعبية عام 2019 دور كبير في إبقائه طي الكتمان وعدم محاولة تمريره في البرلمان، ناهيك بمعارضة قوية من الكتل البرلمانية الأخرى غير المنضوية تحت مظلة التحالف الشيعي لمشروع القانون.
اليوم، وبعد مرور عقد كامل على الإعلان الرسمي الأول عن مشروع تقنين زواج الفتاة في عمر التاسعة، يعود شيعة السلطة في العراق تحت مظلة تحالف “الإطار التنسيقي الشيعي”، إلى إعادة تفعيل المشروع وتمريره وفق صفقة مع القوى السياسية السنية في مجلس النواب. وبما أن شيعة السلطة واجهوا رفضاً قاطعاً للمشروع من الكتل الكُردية والسنية والمستقلين سابقاً، لجأوا إلى المقايضة هذه المرة، وقد وجدوا في قانون العفو العام الذي تريد الكتل السُنية تمريره، فرصة ذهبية لإتمام الصفقة، والقضاء من خلاله على قانون الأحوال الشخصية العراقي (1959) الذي يعد من بين قوانين الأحوال المدنية المتقدّمة في العالم العربي.
ما هو القانون الجعفري؟
لكن، ما هو مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، المعروف أيضاً بالقانون الجعفري، وما مضمونه؟ وما هو قانون الأحوال الشخصية العراقي الذي يريد شيعة السلطة إلغاءه؟ مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد هو بمثابة قانون الشريعة بالنسبة الى الشيعة، يبيح زواج الفتاة في سن التاسعة ويشجّعه، ويمنع الزواج المدني بين المذاهب كما الطوائف، أو يعرقله في أحسن الأحوال ويجعله مؤقتاً. ويعتمد المشرعون لتطبيق القانون الجعفري على المادة 41 في الدستور العراقي لعام 2005، ومفادها: “العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظّم ذلك بقانون”. ويحاول شيعة السلطة (الإطار التنسيقي الشيعي) في مجلس النواب، جعل هذه المادة الدستورية أساساً قانونياً لإلغاء قانون عام 1959 أو تعديله كما يتم تناوله في العراق.
تترك المادة الدستورية المذكورة في صيغتها الحالية، المسائل المتعّلقة بالأحوال الشخصية مثل الزواج والميراث والطلاق لرجال الدين، فيما يصبح القاضي مجتهداً في النص الدستوري ولا تبقى له سلطة قانونية. تالياً، يترك القانون الجعفري المواطن في حيرة من أمره، إذ يضعه في أمور الزواج والميراث وحضانة الأطفال والحقوق الأخرى، أمام محاكم خاضعة لمرجعيات مذهبية مختلفة. وفي هذه الحال، يجد المواطنون أنفسهم أمام رجال الدين وليس المحاكم المدنية.
وقد عارضت هيئات ومنظمات دولية ومحلية مشروع القرار منذ الإعلان عنه عام 2014، على أساس تعارضه مع حقوق النساء والفتيات. واعتبرت بعثة الأمم المتحدة “يونامي” أن مشروع القانون من شأنه أن يساهم في قلب المكاسب، التي تحققت لحماية حقوق النساء والفتيات التي يحميها الدستور وتعزيزها. فيما وصفت منظمة “هيومان رايتس ووتش” طرح المشروع على مجلس النواب العراقي، بخطوة كارثية وتمييزية ضد سيدات العراق، وأنه يكرّس الانقسامات الطائفية، ودعت المنظمة الدولية الحكومة العراقية إلى سحب القانون من المداولة وعدم طرحه للمناقشة في مجلس النواب.
لا خلاف حول كل ما قيل وسيقال بشأن هذا القانون المعيب وانتهاكه حقوق النساء والفتيات محلياً ودولياً، إنما هناك نقطة أكثر أهمية، وهي أن تزويج الصغيرات في سن التاسعة، تقنين لانتهاك الطفولة من حقوقها، بل إنه تشريع لاغتصاب الصغيرات، فالفتاة في سن التاسعة لا تزال صغيرة وتمر بمرحلة النمو الجسدي، ناهيك بأنها لا تكون قد بلغت الدورة الشهرية، تالياً، يعتبر تزويجها في هذا العمر اغتصاباً وانتهاكاً صارخاً لحقوق الطفولة.
في ما يخص قانون الأحوال الشخصية الأول في العراق، يعود تاريخ تشريعه وإصداره إلى عام 1959 ويحمل الرقم 188، ويعد متقدماً على غيره من الكثير من القوانين المدنية في العالم العربي، إذ عالج حقوق الرجل والمرأة والزواج والإرث وقضايا أخرى وفقاً لمرجع قانوني واحد. واستلهم المشرعون العراقيون في هذا القانون المدني الأول من نوعه في البلاد، من مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان والإمام جعفر الصادق، كما تضمن مبادئ من مذاهب أخرى. وأخضع قانون الأحوال الشخصية الأول جميع المسلمين في العراق لمعايير موحّدة في ما خص الأسرة والزواج، ناهيك بتحديد سن الثامنة عشرة كسن قانوني للزواج بالنسبة الى الجنسين.
تزويج الصغيرات في سن التاسعة، تقنين لانتهاك الطفولة من حقوقها، بل إنه تشريع لاغتصاب الصغيرات
مقايضة
كانت معظم القوى السياسية السنية تطالب بتعديل قانون العفو العام في العراق، وكانت هذه النقطة من بين أبرز الشروط التي وضعتها الأطراف السنية، في مفاوضات تشكيل حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، قبل التصويت عليها داخل البرلمان في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، بحسب صحيفة “المدى” العراقية. وأدرجت الحقيبة الوزارية لمحمد السوداني قانون العفو ضمن برنامجها الحكومي، وأرسلته الى مجلس النواب قبل نحو عام، بغية مناقشته والتصويت عليه، ما أدى إلى معارضة قوية من القوى الشيعية.
وبعد طول الانتظار، تمكّن مجلس النواب يوم 5/8/2024، من القراءة الأولى لتعديل قانون العفو العام، وسط مخاوف من شموله المدانين بتهم الإرهاب والانتماء إلى “داعش”. كانت هذه النقطة تثير مخاوف الأطراف الشيعية من القانون تحديداً، ولكن كيف قبلت به وماذا حدث؟ بحسب صحيفة “المدى” وبناءً على مصادرها الخاصة، فإن الإطار التنسيقي الشيعي “اشترط مناقشة قانون العفو العام مقابل تعديل قانون الأحوال الشخصية”، إذ تلجأ القوى السياسية غالباً إلى مساومة بعضها بعضاً، لتمرير القوانين الخلافية في سلة واحدة، وهذا ما حدث بالنسبة الى قراءة قانونَي العفو العام والأحوال الشخصية بناءً على معلومات الصحيفة. وبذلك أنهى مجلس النواب في اليوم ذاته، القراءة الأولى لمقترح تعديل الأحوال الشخصية.
قانونان مختلفان، إنما لو نظرنا إلى ما يحملانه من مضامين ومفارقات، فإنهما يرتبطان ببعضهما بشكل وثيق، ذلك لأن المُراد من تعديل قانون العفو هو ألا يتم استثناء “الفترة الداعشية” في تاريخ العراق بعد 2003، وهي الفترة ذاتها التي أُعلن فيها عن تعديل قانون الأحوال الشخصية، ومن ثم وضعه في أدراج الكتمان بسبب ما تعرّض له العراق من الصدمات الأمنية والسياسية، عدا فقدان مساحات واسعة من الأراضي والمدن لصالح “داعش” المتطرف، كما هي الفترة ذاتها، إذ تعرّضت فيها الأقلية الإيزيدية في محافظة نينوى إلى أكبر إبادة جماعية في تاريخها، إذ سُبيت الآلاف من النساء والفتيات واستُعبدن وفُصل الأولاد عن العائلات تحت عنوان إحياء الرق قبل قيام الساعة.
كما لا يمكن النظر إلى مثل هذا القانون المتعلق بالأحوال الشخصية خارج “التفكير الاستعبادي”، ذلك لأنه يحط من قيمة المرأة، ويُخضع سن البلوغ لدى الفتاة لخفض قسري وهي في السن التاسعة، عدا الهيمنة والاستلاب، أي أننا نقف مجدداً أمام مشهد استعباد النساء، إنما عبر شرائع الطوائف والمذاهب، تالياً من شأن القانون، في حال أصرّ “الإطار التنسيقي الشيعي” على تمريره في مجلس النواب وجعله قانوناً، أن يحث المذاهب والطوائف الأخرى على تشريع قوانين خاصة بها، ما يخلق فوضى في القوانين والتشريعات ويقسّم المجتمع العراقي إلى طوائف متناحرة.
تريد الأحزاب الشيعية أن توهم المجتمع بأنها تقف إلى جانب المرأة وتصون حقوقها، من خلال هذا القانون الذي يعطي للمرأة حرية التوقيع على عقد الزواج بنفسها، في حال غياب الوصي، ولكن السؤال هنا هو: هل الفتاة في سن التاسعة مؤهلة لاتخاذ القرارات والتوقيع على وثيقة عقد الزواج؟ وفق جميع الشرائع والقوانين المدنية ولوائح حقوق الإنسان، يُصنف الإنسان في هذا العمر ضمن سن الطفولة، تالياً، إنه قانون ينافي جميع مبادئ حقوق الإنسان، ويضع العراق في خانة الدول التي يتم فيها الاغتصاب وفقاً للقانون.
ليست القضية كما يذهب إليها البعض، مجرّد قضية تعدٍّ على حقوق المرأة ومنح الرجل سلطة تحديد الزواج والميراث فقط، بل هي تعدٍّ على الطفولة بالدرجة الأولى، ذلك أن الطفل/ة في سن التاسعة تكون على مقاعد الدراسة الابتدائية، ولم تكتمل جسدياً، ولا تعي من العلاقة الجنسية شيئاً، كما أن العمر لا يؤهلها لتحمّل مسؤولية الحياة الأُسرية، بل لا تفهمها أساساً.
وينافي العراق في حال إقرار المشروع، اتفاقية حقوق الطفل المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1990، ذلك أنه يتخلّى عن المادة الأهم في الاتفاقية المعتمدة، وهي المادة 27، ومفادها: “تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في مستوى معيشي ملائم لنموه البدني والعقلي والروحي والمعنوي والاجتماعي”. والطفل في هذه اللائحة الحقوقية كما جاء في المادة الأولى (الجزء الأول) هو “كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة”، ولا يجوز وفقاً للوثيقة ذاتها “أن يجري أي تعرض تعسفي أو غير قانوني للطفل في حياته الخاصة، أو أسرته أو منزله أو مراسلته، ولا أي مساس غير قانوني بشرفه أو سمعته، وللطفل حق في أن يحميه القانون من مثل هذا التعرض أو المساس”.
تزويج الطفلة في سن التاسعة يلغي كل تلك المواد المذكورة، ويعرّض حقوقها لانتهاكات خطيرة، أولها تجريدها من الحق في أن تعيش الطفولة، تالياً، يقع واجب إيقاف هذا المشروع المهين للأطفال، ليس على العراقيين فقط، بل على العالم بأجمعه، ولو تم إقراره والبدء بتنفيذه، فلن تفيد جميع بيانات التنديد ولوائح حقوق الإنسان.