فضيحة رواتب الرئاسات تستزف ميزانية العراق
2022-12-04 13:36:21
عربية: Draw
تعد قضية رواتب الرئاسات والموظفين والمتقاعدين في العراق، البالغة نحو 43 مليار دولار سنويا، من أكبر أبواب الفساد التي تكبد الدولة مبالغ طائلة تشكل ميزانيات عدة دول في المنطقة، وسط دعوات لإلغاء الفوارق الهائلة بين رواتب كبار المسؤولين وباقي الموظفين لغياب العدالة عنها.
ونظرا لضخامة قضية الرواتب والمخصصات والمنافع التي تستنزف ميزانية البلد، فقد بدأ مجلس النواب مؤخرا، تحركا باتجاهين، الأول إعداد سلم رواتب جديد يحد من الفوارق الكبيرة بين رواتب موظفي الدولة ويحقق العدالة فيها، والثانية تخفيض رواتب كبار المسؤولين من رئاسات ووزراء ودرجات خاصة ضمن محاولات تخفيض الإنفاق الحكومي، بالتزامن مع إعلان حكومة محمد السوداني إجراءات لتخفيض رواتب الرئاسات والدرجات الخاصة.
ونظرا لتصاعد المطالبات الشعبية بتقليص رواتب كبار المسؤولين التي بلغت أرقاما خيالية، وبالتزامن مع ضائقة اقتصادية ونقص الخدمات واتساع مساحة الفقر والبطالة في البلد، فقد أبدى عدد من النواب المستقلين العزم على إيجاد تشريعات جديدة أو تفعيل قوانين مجمدة من أجل إلغاء الامتيازات المالية للمسؤولين في الدولة.
وبهذا السياق قدم عدد من النواب طلبا لرئاسة البرلمان لتنفيذ قانون رقم 28 لسنة 2019 حول إلغاء امتيازات المسؤولين في الدولة.
ويقول النائب عن حركة امتداد احمد مجيد الشرماني،"رأينا ان تنطلق المبادرة الحقيقية لإلغاء الرواتب الهائلة للمسؤولين، من تحت قبة البرلمان باعتباره المؤسسة التشريعية الأم للدولة، والراعي الرسمي لمصالح وحقوق الشعب، وأقل ما يمكن تقديمه لهذا الشعب الصابر والمظلوم هو العمل لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفوارق الطبقية بين جميع فئاته".
وأشار النائب إلى «بدء جمع تواقيع النواب ضمن حركة امتداد المنبثقة عن روح انتفاضة تشرين، وما زالت المحاولات تجري لجمع تواقيع أكبر عدد من النواب المستقلين والآخرين لبلورة موقف موحد تجاه تنفيذ قانون 28 وإلغاء الامتيازات المبالغ بها لجميع مسؤولي الدولة» وعزا عدم تفعيل القانون سابقا إلى عدم تبنيه من قبل النواب في الدورة السابقة بسبب المحاصصة وتغليب المصالح الشخصية والحزبية.
وشدد الشرماني «أننا نرفض سياسة التمييز بين المسؤول والمواطن في الرواتب والحقوق والواجبات، والفجوة الكبيرة بين تلك الرواتب وهو ما نسعى لتجاوزه من خلال التمسك بتنفيذ القانون».
وبالنسبة لإجراءات الحكومة الأخيرة لتخفيض رواتب بعض المسؤولين، أكد الشرماني «سندعم إجراءات الحكومة ان شرعت بصورة حقيقية وجادة لتنفيذ أية خطوات إصلاحية تعيد الحق إلى نصابه وتنصف الشعب المظلوم، ونحن ماضون في تشريع القوانين التي تخدم الشعب ونواصل مواجهة الفساد وتقويم العمل النيابي ومراقبة الحكومة وبرنامجها، ومواصلة متابعة ما يخدم الشرائح المظلومة وإيجاد فرص العمل للعاطلين عن العمل".
ويذكر ان قانون 28 لسنة 2019 لتخفيض رواتب ومخصصات كبار المسؤولين التي تشكل أكثر من نصف رواتب موظفي الدولة، قام البرلمان السابق بتشريعه في خضم انتفاضة تشرين 2019 وخروج الملايين في تظاهرات عارمة للمطالبة بالإصلاحات ومكافحة الفساد والتي سقط فيها ما يزيد على 600 شهيد ونحو 25 ألف جريح.
وكانت اللجنة المالية النيابية أجرت مناقشات واسعة لقضية الرواتب وتداعياتها، وأعلنت في 16/11/2022 إنها تؤيد إلغاء امتيازات المسؤولين العراقيين. وقد شكل البرلمان لجنة مشتركة من مختلف الوزارات تعمل على تعديل سلم الرواتب وإكماله في الموعد المقرر، وهي تضم عددا من الخبراء والمتخصصين والموظفين والمهنيين.
عضو اللجنة القانونية النيابية احمد فواز أعلن ان «مسودة تعديل قانون سلم الرواتب هو ضمن أولويات البرلمان والحكومة لإقراره إلى جانب قانون الخدمة المدنية» لافتا إلى أن «اللجنة القانونية النيابية عازمة على سن القوانين التي تعم شرائح المجتمع العراقي ومن بينها قانون سلم الرواتب»
إلا ان النائب جمال كوجر عضو اللجنة المالية، أكد ان سلم الرواتب يحتاج إلى قانون خاص أو ان يدرج ضمن قانون الخدمة المدنية. وأشار إلى ان قانون الخدمة المدنية تم سحبه من قبل حكومة السوداني لذلك لا نجد قانون سلم الرواتب، مشيرا إلى عدم إدراج سلم الرواتب ضمن موازنة 2023 التي يجري مناقشة فقراتها حاليا.
والحقيقة ان محاولات سابقة لترشيد رواتب كبار المسؤولين، قد جرت ولكنها لم تستمر، ومنها قيام رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، أثناء المعارك مع تنظيم داعش الإرهابي بين 2014 و 2017 بإجراءات مالية تقشفية أبرزها خفض رواتب الرئاسات والدرجات الخاصة بنسبة 50 في المئة ووفر وقتها للميزانية نحو 11 مليار دولار.
التحرك الحكومي
وبعد تشكيل حكومة محمد السوداني قبل نحو شهرين، تعهدت بإجراء إصلاحات للأزمات المزمنة من بينها خفض الانفاق الحكومي وتقديم الخدمات للمواطنين، في محاولة لكسب الشارع الناقم على الفساد، ولذا أصدر السوداني مؤخرا سلسلة أوامر وتوجيهات مالية أبرزها إلغاء مخصصات الضيافة والعلاج وتأجير الطائرات الخاصة للرئاسات الثلاث الجمهورية والوزراء والنواب، كما وجه أيضا بتخفيض رواتب الوزراء بواقع 2.5 مليون دينار لكل وزير وتخفيض رواتب المسؤولين من أصحاب الدرجات الخاصة، إضافة إلى إصدار أمرا بإلغاء 20 سفارة عراقية، وعدم منح النواب عجلات جديدة وغيرها من القرارات. وسبق للسوداني ان صرح «ان تخفيض رواتب الرئاسات والمنافع الخاصة بها بنسبة 16 في المئة سيوفر للخزينة 500 مليار دينار شهريا أي 6 ترليون سنويا» .
إلا ان سياسيين ومراقبين انتقدوا قرار تخفيض رواتب المسؤولين بمقدار 2 مليون ونصف دينار فقط، داعين الحكومة للالتزام بقانون 28 لسنة 2019 الذي حدد رواتب المسؤولين الكبار، حيث حدد ذلك القانون راتب الرئيس بـ 8 مليون دينار زائد 4 مليون مخصصات. والوزراء 4 مليون و2 مليون مخصصات، ولكن الواقع الآن، ان الرئيس يستلم نحو 48 مليون والوزير 24 مليونا والنائب 12 مليونا حسب المصادر المالية.
ويشير المختصون ان اختراع فقرة «مخصصات المنافع الاجتماعية» لكبار المسؤولين التي تتجاوز أضعاف الرواتب الأصلية، هي التفاف على القانون 28. مشيرين إلى ان النسبة بين أعلى وأقل راتب قبل 2003 كانت 20 في المئة أما الآن فإن النسبة تصل إلى 120 في المئة.
ورغم ان أعداد الرئاسات والدرجات تشكل 5 في المئة من موظفي الدولة، إلا انهم يحصلون على أكثر من نصف مرتبات جميع موظفي ومتقاعدي الدولة. حيث أقر وزير المالية الأسبق فؤاد حسين، في إحدى تصريحاته "ان نفقات الرواتب والمخصصات بالموازنة تبلغ 43 مليار دولار منها 23 مليار دولار للرئاسات والدرجات الخاصة".
ومن نماذج الرواتب الفلكية للمسؤولين ان الراتب التقاعدي الشهري لأول رئيس جمهورية تحت الاحتلال الأمريكي عام 2004 غازي الياور، والذي خدم لمدة أشهر، بلغ نحو 61 مليونا و680 ألف دينار عراقي (نحو 51 ألف دولار أمريكي) وكلّف مجموع الرواتب التقاعدية التي تقاضاها لـ19 عاما من بداية 2004 ولنهاية 2019 ميزانية الدولة قرابة 11 مليار دينار عراقي نحو (9 ملايين و596 ألف دولار) تضاف لها رواتب الحمايات والمخصصات الأخرى.
وتؤشر الانتقادات أيضا لثغرات كثيرة أخرى منها قضية الرواتب المزدوجة التي يتقاضاها آلاف المسؤولين وقادة الأحزاب المتنفذة، وهي مخالفة للقوانين في العراق التي تحدد راتبا واحدا للموظف، وكذلك في رواتب رفحاء، التي يحصل عليها اللاجئون في مخيم رفحاء في السعودية ممن هربوا من العراق عقب مشاركتهم في تمرد ضد الدولة عام 1991 أثناء حرب الخليج الثانية، حيث يتقاضى لاجئو رفحاء رواتب خيالية هم وجميع أفراد عائلاتهم حتى الأطفال الذين يولدون حاليا، وترفض الأحزاب المتنفذة تخفيض تلك الرواتب لأن الكثير من قادتها مستفيدون منها. وفي المقابل فإن هناك قضية رواتب المتقاعدين (نحو 4 ملايين متقاعد) حيث ترتفع المطالبات برفع الرواتب الدنيا لشريحة المتقاعدين وإلغاء الفارق الكبير بين رواتب المتقاعدين القدماء والجدد.ويرى المراقبون وأغلب الموظفين ان تعديل سلم الرواتب أمر لابد منه لتحقيق العدالة الاجتماعية، كما انه سيمكن الحكومة الجديدة، من إضافة درجات وظيفية أخرى وبنفس الأجور التي تنفقها الآن، من خلال تخفيض الرواتب المبالغ فيها.
ولا شك بأن الفروقات بين رواتب المسؤولين الخيالية ورواتب بقية الموظفين، هي نموذج لغياب العدالة الاجتماعية في العراق وهي نتيجة اعتبار القوى السياسية الخزينة العراقية مالا سائبا لها، ولذا فإن محاولات توحيد سلم الرواتب وتخفيض رواتب المسؤولين، مهمة تبدو عسيرة إذا لم تكن مستحيلة، لأن قيادات أحزاب السلطة عملت منذ 2003 على تكوين ثروات هائلة من الرواتب والمخصصات والمنافع، إضافة إلى الخيارات الأخرى، وهي غير مستعدة للتخلي عنها أبدا.
المصدر: القدس العربي