بعد ترامب : اعادة تنظيم الولايات المتحدة
2021-02-10 14:19:36
مریوان وریا قانع - آراس فتاح
زاوية اسبوعية يكتبها ل( الحصاد DRAW ) : -
ترجمة : عباس س المندلاوي
يتحدث الكثير من المهتمين بالشؤون الاميركية عن حدوث انقسام كبير ومتعدد في المجتمع الاميركي ، ويعدون نهاية فترة رئاسة دونالد ترامب كبداية للمشاكل والازمات السياسية والاجتماعية الكبيرة تنجم عنها حرب داخلية جديدة تواجه المجتمع الاميركي ويطلق عليها ”حرب غير مدنية “. هذه الحرب تتجسد في ( حرب كونزِرفاتيف) و العنصريين ضد الديمقراطيين والليبراليين ، وحرب ذوي البشرة البيضاء ضد نظراءهم السود ، حرب السكان الاصليين ضد المهاجرين ، القرية ضد المدينة و مؤيدو الحمر ضد الزرق ...الخ . كانت هناك اشياء في الولايات المتحدة تعتبر من المسلمات ولكن ذلك تغيير بعد خسارة ترامب ، الذي يرفض الاعتراف بخسارته ويوصم خلفه بايدن بالرئيس غير الشرعي والمزيف ؛ بل ولم يحضر مراسم تسلم الرئيس الجديد لمهامه في البيت الابيض ولم يرحب هو زوجته بعائلة بايدن لاظهار رفضه خسارته ،وفي خطابه الاخير كرئيس للبلاد لم يهنيء بايدن بالفوز بل حتى انه لم يذكر اسمه ، مما احدث شرخا كبيرا في ثقافة تقبل الخسارة في الانتخابات ، والتي كانت من اعمدة الرئيسة والاساسية النظام الديمقراطي السائد في الولايات المتحدة الاميركية ، هذا الخروج لدونالد ترامب عن الاعراف الاميركية في تداول السلطة جعل يوم تسلم الرئيس الجديد سلطاته رسميا يوما عصيبا ورهيبا في تاريخ اميركا .
الخشية من وقوع اعمال عنف و احتجاجات واعمال تخريبية والترهيب في يوم التنصيب في احد الانظمة الديمقراطية الشامخة ، حدا بالسلطات الامنية في الولايات المتحدة الى اتخاذ اقصى التدابير والاجراءات الامنية المشددة في العاصمة واشنطن ، حيث تم اغلاق عشرات الجسور والطرق والازقة و وضع الجدران والحواجز الكونكريتية ونشر 25 الف عسكري ، بالرغم من مرور المناسبة دون وقوع اية حوادث تذكر .ويعد دونالد ترامب اول رئيس اميركي يرفض الاعتراف بخسارته ويعرض القيم والاعراف الاساسية الديمقراطية الاميركية للتشكيك ويضعها في فوضى عارمة بشتى الاشكال ، ترامب لم يكن رئيسا طبيعيا ( عاديا ) ؛ لقد كان سياسيا متعصبا ( متشددا) وعنصريا وذكوريا خطيرا ن لقد كان شخصية نرجسية متكبرة ، شغل العالم كله بنفسه واكاذيبه و استهتاره لمدة اربع سنوات ، عمل خلالها على تقزيم وتشويه السياسة الاميركية الخارجية وجعل نفسه محورها ، وفي الداخل الاميركي عمد الى تخريب العلاقات الاجتماعية للمجتمع الاميركي المتعدد الثقافات والاطياف وقسم المجتمع على جبهتين متضادتين كما وحرض الجماعات والافراد الموتورين المعادين لقيم الديمقراطية على اقتحام مبنى الكونكرس الاميركي امام انظار العالم خروجا على المثل العليا الاميريكية في حدث لم تشهده الولايات المتحدة في تاريخها .
وعندما تفشت جائحة كورونا صور دونالد ترامب نفسه كقائد ورئيس لحملة القضاء عليها بالرغم من انه لم يؤمن بخطورتها ولم يكن مستعدا في الاساس لاتخاذ اجراءات كافية وشاملة لمواجهة الفايروس الفتاك الذي كان هو وعدد من فريقه الرئاسي واكثر من 25 مليون اميركي من المصابين به وهي اعلى نسبة عالميا ، كما ذهب ضحيته اكثر من نصف مليون انسان اميركي ، وقد اراد اظهار نفسه امام الشعب الاميركي كمنقذ وقائد حقيقي له لمواجهة الاعداء الداخل والخارج ؛ فخارجيا وجد ترامب ضالته في الصين لتقديمها للمجتمع الاميركي كعدو لدود متهما اياها بالوقوف وراء نشر فايروس كوفيد 19 ، فكان ينعته في خطبه وتغريداته ب"الفايروس الصيني" . فضلا عن هذا خلق ترامب العديد من الازمات والحروب والصراعات الكبيرة والصغيرة خلال فترة ولايته ، والتي ستكلف السياسة والمجتمع الاميركي سنوات لتنظيف مخلفاتها السلبية والتدميرية . هذا ولم يكتف الرئيس الاميركي السابق بإستغلال حملة مواجهة جائحة كورونا وتنصيب نفسه قائدا لها ؛ بل قاد حربا أخرى غير معلنة داخل المجتمع الاميركي ، حرباً للعنصريين والمتشددين دينيا ضد النظام الديمقراطي وضد التعددية والتعايش السلمي والمساواة الانسانية وضد مساواة العناصر والاجناس المختلفة .
ويؤكد الخبراء والمعنيين بالشأن الاميركي ان البلاد ستواجه تحديات ومشاكل وازمات وانقسامات حادة وكبيرة متعددة الجوانب والاتجاهات اذا لم يعمد الفريق الجديد في الرئاسة والمعنيون الى ايجاد حلول مناسبة وناجعة لتلك المشاكل والازمات التي خلفته سوء ادارة ترامب . وبهذا الصدد يشير الخبراء الى ان الخشية ليست من تحول المجاميع المسلحة داخل المجتمع الاميركي الى المزيد من التشدد وتبنيها عقائد مضادة للديمقراطية والليبرالية والتعددية ، بل هناك احتمال لعدم تقبل تلك الجماعات للحزب الجمهوري كموطن سياسي لها او معبر لطموحاتها وتوجهاتها ، مما يقود ذلك الى المزيد من الانقسامات الاجتماعية والسياسية وظهور جماعات اكثر تشددا في المشهد السياسي الاميركي ؛ واحد الاحتمالات والاسقاطات للوضع السياسي الراهن هو تأسيس حزب قومي انعزالي يميني متطرف شعبوي يترأسه ترامب نفسه .
بالاختصار ؛ بالرغم من خسارته في الانتخابات الا ان ترامب نجح في تسفيه الانتخابات والحط من قيمتها وتعميق وتعزيز الانقسامات الشاقولية في المجتمع الاميركي المتعدد الطوائف والاعراق والتوجهات ، وخلف وراءه عالما يعج بالفوضى العارمة التي تحتاج سنوات طوال لعلاجها والقضاء على مسبباتها .
في المقابل سمع الشعب الاميركي كلمة الرئيس الجديد جو بايدن خلال مراسيم تنصيبه رئيسا للبلاد ، اكد فيها على الحوار وتقبل الاخر وانهاء الانقسام الذي وصل الى مستوىً الخطير الذي احدثه ترامب خلال فترة ولايته ، واضاف ان التنافس والاختلافات والصراع جزء من طبيعة النظام الديمقراطي الحقيقي ولا ديمقراطية من دونه . ولكن وجود ذلك شيء وانقسام البلاد على جبهتين متضادتين شيء اخر ، والتباعد بين الجماعات والقوى الاجتماعية المختلفة عن بعضها عقب ترامب وفقدان الانسجام الراديكالي فيما بينها ظاهرة مختلفة عن وجود الاختلافات والتنافس والصراع الديمقراطي . النقطة الرئيسة في كلمة بايدن هي انهاء الانقسام والاتحاد مجددا في بوتقة واطار يسمى " الامة الاميركية" ، مفهوما الوطنية والامة الاميركية كانا المحور الاساسي لكلمة الرئيس بايدن ويرمزان الى الاطر العامة التي تضم وتجمع عدة مئات من الملايين الاميركيين معا ، بايدن شدد على اعادة بناء واحياء المفهومين واعتبر ذلك من اولى اولوياته ، وذلك قد يستغرق سنوات . ان اعادة بناء ثقافة التعايش واحترام متبادل ديمقراطي بالرغم من الاختلاف في التوجهات والاراء . انما سيشغل المجتمع الاميركي والعديد من المجتمعات بضمنها مجتمعنا مستقبلا هو بنا امة تعددية ومختلفة الاطياف يجمعها اطار سياسي موحد استنادا الى احترام الاختلافات وضمان الحقوق ، وما يميز الولايات المتحدة عن دول وكيانات كالتي عندنا هو ان اميركا تمتلك طاقات وامكانات وعناصر سياسية فاعلة ونشطة وديمقراطية فضلا عن مؤسسات رئيسية مختصة وعريقة في ممارسة الديمقراطية والحفاظ عليها مثل القضاء المستقل والجيش والاعلام والمجتمع المدني ، هذا فضلا عن ثقافة سياسية متينة الاسس تساند هذه عملية اعادة البناء تلك .
لقد شُرِعَ في خطوات اعادة تشكيل تلك الامة التعددية الديمقراطية والنموذج الصحي من الوطنية ، منذ كلمة الرئيس الجديد اثناء مراسم التنصيب في البيت الابيض ، واختيار امرأة من ذوي البشرة السمراء كنائب لرئيس الولايات المتحدة لتكون رئيسة للبلاد في حال وفاة بايدن ؛ له دلالات ومعاني وذو قيمة رمزية عظيمة لان في حال حصول ذلك سنرى اول امرأة واول شخص من اصول مهاجرة تتربع على كرسي المكتب البيضاوي في تاريخ البلاد ، كما ان احد الوزراء من المتحولين جنسيا ”ترانس جيندر“ ، وهكذا تم توجيه لطمة( صفعة ) مؤلمة لعقيدة البيض الذكورية ووضع حد للسلطة الذكورية في السياسة الاميركية عبربدء عملية اعادة بناء مجتمع تعددي من حيث الثقافة والاراء و الجنس .ويُتوقع ان تنشغل الولايات المتحدة بنفسها عن مشاكل العالم واوروبا ، ولكن عملية اعادة بناء اعظم دولة في العالم لن تكون دون تأثيرات او نتائج على مسألة الديمقراطية في العالم وعلى المعادلات والعلاقات الدولية والنظام العالمي .
المجتمع الاميركي والرئيس بايدن سيحتاجان في المستقبل الى اتمام مشروع الرئيس الاسبق باراك اوباما (غير المنجز ) والموسوم ب”بناء الامة من البيت Nation Building at Home “ والذي تمكن بواسطته من الفوز بولايته الرئاسية الثانية . لسنوات طوال كانت الولايات المتحدة منهمكة في بناء الامم في الدول التي تحتلها ، والتي كانت تشكل تهديدا لامنها القومي والنظام العالمي الجديد ، ولكن قوى عنصرية واصولية مسلحة في الداخل الاميركي تشكل تهديدا مباشرا للديمقراطية الاميركية ولثقافة التعددية والتعايش السلمي وقيم تقبل الاخرين في الوقت الراهن ، وعلى بايدن وفريقه الرئاسي قبول تحدي اتمام مشروع اوباما .