مستقبل علاقات أربيل وبغداد؛ فیدرالیة غیر مستقرة
2021-01-25 11:54:49
الحصاد draw:
قراءات مستقبلية - مركز الدراسات المستقبلية
توطئة
إن العلاقات بين اربيل وبغداد، هي مفعمة بالصعبات والمشقات، تلك العلاقات بطبيعتها، وبسبب وجهات النظر المتطرفة والمتغيرة بين كلا الطرفين، من لاعبين محليين حتى يصل الامر الى لاعبين اقليميين ودوليين، لم يكن بالمقدور حلحلتها جذريا، ولم يصل الى مسك التلابيب بشكل عنيف ليتم حسم الموضوع في جو مقلق، ومن دفع الثمن أكثر في هذا الوضع غير المحسوم منذ عشرات السنين، هم مواطنو العراق وكوردستان.
الان، تمر العلاقات بين الاقليم والعراق بوضع لم يحسم أمره بين الحلحلة والانفصال، وفي هذه الحال لا العراق بمقدوره تجاهل الاقليم ولا الاقليم يمكنه ان يتغافل عن الوضع، لذا توجد محاولة لدى كلا الطرفين لحسم ملف العلاقات المعقد، ولو أتت المحاولة بحل جزء من اشكاليات هذه العلاقات.
في المراحل الاولى لتنظيم العلاقات بين اربيل وبغداد، فقد وجد الى حد ما، تفاهم بيِّن بين الوفدين المفاوضين للاقليم وبغداد، ومن المنتظر ان تلج حالة العلاقات مرحلة اخرى بعد المصادقة على ميزانية العراق لعام 2021 من قبل البرلمان، لذا خصصت قراءة العدد الثامن، للتباحث بشأن الخلفية ووجهات النظر السائدة المؤثرة، اطار الاشكالية، الاطراف المؤثرة داخل العملية وفي النهاية تم عرض السيناريوهات ومقترحات الباحثين
المحور الاول:
الخلفية التأريخية وطبيعة العلاقة
لم يكن تطبيع علاقات اربيل مع بغداد وعدم تطبيعها، مرتبطا فقط بالحقائب الحكومية لكلا الطرفين حتى يمكن حلحلتها باستيلاء الفلان على كرسي الحكم او ترك الاخر له، بل في الحقيقة، طال تعقيد العلاقات وتراكم المعضلات واحيانا فقد تمت تغطية تلك المعضلات بشكل مؤقت او حاولوا تخديرها مؤقتا وفي الاخير ادت تلك الحلول مرة اخرى الى اسباب اضطراب تلك العلاقات المعقدة والمليئة بالازمات السابقة. يقترب تاريخ علاقات الحركة التحررية الكوردستانية مع العراق المليئة بالصعبات و المشقات، مئة عام، ولم يتم تثبيت بعض مطلب كوردستان حتى الان، في هذا العراق الذي حددت سوره بدون كوردستان منذ عام 1921، وكانت بغداد تتجاهلها رغم التحول السياسي والايديولوجي وانتهاء الانتداب والاستعمار وتغيير نمط النظام السياسي في العراق اربع مرات وباربع انماط مختلفة (الانتداب، الملكي، الجمهوري المركزي، والجمهوري الفدرالي). وقد استمرت تلك المطالب الكوردستانية الى الان، وبقي وريثو اعدائها السابقين في بغداد اذ لم تتناغم ايقاعات سياساتهم مع الحان حقوق الاقليم.
وفي التاريخ الداني، رغم مرور ما يقارب 18 عاما على سقوط صدام، و16 عاما على صياغة دستور العراق، لكنه لم تستقر هوية النظام السياسي للعراق. على الرغم من ذكر دولة العراق ونظامها السياسي العراقي في المادة الاولى من الدستور كدولة فدرالية علناً، الا ان تجربة العراق المستغرقة 16 عاما بعد 2005 أظهرت أن الاطراف الرئيسة العراقية لم تتفق على نمط ادارة الدولة المسماة بالدولة الفدرالية أبداً.
اذ تغيرت علاقات الكورد واقليم كوردستان والشيعة المخططين الرئيسين لعراق ما بعد 2003، بخلاف الماضي، صوب التعقيد والبروردة والاضطراب، حتى وصل الامر الى حد انها اصبحت خطرا على كوردستان والدولة الفدرالية ككيان فدرالي موحد.
لذا فان مصدر المشكلات كما هو الان لا يتبلور في الرواتب وبعض المستحقات المادية، بل ان التوصل الى مثل هكذا علاقات لم يكن اصلا رغبة الحركة السياسية الكوردية ولا الاعتراف المقتنعة للاطراف العراقية، لكن قلق الطرفين وفزعهما وعدم اعترافهما بشكل صريح بكيفية وجودهما، جعلهما مضطرين للوصول الى هذا المستوى من العلاقة، بدل الوصول الى حل جذري بحيث يمنعهما من الرجوع الى الاطار نفسه، مرة اخرى.
ان تاريخ محاولات تنظيم علاقات الاقليم مع العراق بعديها التنازلي والتصاعدي، طويل ومتعدد الانماط: الثنائية (الكورد والانكليز)، الثلاثية (الكورد، العراق والانكليز)، الثنائية العراقية (الكورد وجمهورية 1958، الكورد والجمهورية البعثية، اذار 1970)، المستوى الدولي (الكورد والتحالف في 1991، جعل اقليم كوردستان امرا واقعا)، وايضا الاطراف الثلاثة الجديدة (العراق، امريكا والكورد) حيث مثلت هذه العلاقة اكثر تاثيرا تحت مراقبة امريكا، وجعلت مسألة الفدرالية وحقوق كوردستان امرا دستوريا، بحيث أوجدت تفاهما عراقيا جديدا أدت الى خلق اطار موائم للاقليم والعراق، بين سنوات 2003 حتى 2014، رغم التصاعدات والانخفاضات التي حدثت عليها بين فينة واخرى، لكن منذ عام 2017 لم تتطور هذه العلاقة فحسب بل سببت في انخفاض مستويات العلاقات السياسية والامنية والمالية بين اربيل وبغداد، واقتصرت على الميزانية والقوانين القصيرة المدى كالقروض. الان، ما يهم الاقليم، هو الدستور العراقي ويرغب أن يكون الدستور أساس تنظيم العلاقات، لكن ثمة وجهة نظر عراقية مؤثرة، صادرة عن جهات سياسية مختلفة، تطالب بتعريف وتفسير وصياغة الدستور بحيث يؤدي الى مزيد من تحجيم الاقليم. مهما يكن من حال، ينبغي أن يكون مصدر توجيه التفكير والعلاقات بين اربيل وبغداد، هو التفكير في وضع خارطة الطريق الجذرية والانهاء والاعتراف بطبيعة المشكلات بدل التهرب وترك المعضلات لذاتها والحقب والاجيال اللاحقة، حيث يؤدي الى التلاشي البشري والمالي والانحطاط الاكثر وعدم الاستقرار لكلا الطرفين.
إطار المشكلة بعد 2003:
كتب دستور 2005 من وجهة نظر الشيعة والكورد الغالبة بشكل رئيس، إذ قام الكورد بتثبيت أحد اهدافهم الرئيسة وهو الفدرالية. رغم ذلك الانجاز، الا انه لم يستطع أن تحل بعض المشكلات منذ البدء بكتابة الدستور، أهمها هي كركوك والمناطق المتنازع عليها، وأيضا رغم الاعتراف غير المباشر بقوات البيشمركة وتمويلها من قبل بغداد، لكن لم توضح معضلة تمويل البيشمركة ولا حتى تمويل اقليم كوردستان ذاته في الدستور، وهكذا أصبحت، بعد عام 2003، مسألة المناطق المتنازع عليها والبيشمركة والميزانية، عناوين رئيسة للمعضلات الماثلة بين كلتا الجهتين، وبحسب الظروف السياسية فان بغداد واربيل تلجان في دائرة تدهور علاقاتهما.
ومن جهة أخرى بعد بحث الاقليم عن النفط والغاز ومن ثم ايجاد كم هائل منهما وصدور قانون النفط والغاز من برلمان كوردستان عام 2007 وعدم موافقة الحكومة الفدرالية على صدوره قبل قانون الفدرالية، فقد أضحت معضلة النفط على رأس المعضلات الرئيسة الاخرى الماثلة بين اربيل وبغداد، وتلو استقطاع ميزانية الاقليم من قبل بغداد عام 2014، شرع الاقليم بتصدير النفط من جهته منفردا الى الاسواق العالمية.
وبعد اجراء عملية الاستفتاء واستيلاء بغداد على المناطق المتنازع عليها مرة اخرى، ومن ثم 16 اوكتوبر عام 2017، فقد غطت حالة عدم وثوق تامة على طبيعة العلاقة الثنائية بين الطرفين. وكانت المعضلات الرئيسة مثل مصير كركوك والمناطق المتنازع الاخرى والبيشمركة والميزانية كلها عمَّقت مشكلات كلا الطرفين اكثر، لكن بسبب الازمة المالية وانخفاض قيمة النفط فقد أضحت المشكلة الاقتصادية ابرز مشكلات الطرفين، والتي تشمل: مسألة كمية وكيفية تسليم النفط واستفادة الطرفين منه، وكذلك مسألة المستحقات المالية للاقليم من حصته في ميزانية ونقد واقتراض العراق والفرص السياسية الاخرى التي يستفيد منها العراق الآن كدولة والاقليم محروم منها.
ان اساس الاعتراضات واستقطاع حصة الاقليم من قبل بغداد، هو سياسة نفط الاقليم، وخصوصا تصديره وعدم اعادة وارداته الى خزينة الحكومة الفدرالية. رغم انه في المادتين 111 و 112 من الدستور ذُكِر ان النفط والغاز وملكيتهما يعود الى جميع العراقيين وتُدارُ تلك الحقول النفطية الان (اي عام 2005) من قبل الحكومة الفدرالية مع الاقاليم والمحافظات، الا أنه لم ترد تفاصيل ادارتها وخصوصا في حقول ما بعد عام 2005، والتي من المفروض أن ينظمها قانون خاص وفق المادة 112 من الدستور، ولكنه حتى الان لم تنظم.
بالرغم من طرح مشروع قانون النفط والغاز على البرلمان العراقي في العامين 2007 و2011 الا ان البرلمان العراقي لم يستطع أن يُصدِر هذا القانون، والمانع الاساس هو عدم الاتفاق على صلاحيات وحقوق الاقليم والمحافظات المُنتِجة، وأخيراً اعتمد الاقليم على قانونه الخاص (عام 2007) في غياب قانون فدرالي، وقد ادار الاقليم نفطه وغازه، مما سبب في تعميق الخلافات بين الطرفين..
المحور الثاني:
وجهات النظر السائدة والاطراف المؤثرة للعلاقة
وجهات النظر السائدة:
قبل تحديد الاطراف المؤثرة داخل المعضلات العريقة-الحديثة بين اربيل وبغداد، من المستحسن، على مستوى عام، كما برز في تاريخ العلاقات، أن نحدد وجهتي النظر السائدتين والمؤثرتين في التلاقي، اللتين لهما الحضور الدائم في تصاعد وانخفاض العلاقات بين الطرفين:
اولا: وجهة النظر الاولى:
هي وجهة نظر الاقليم التي تحاول، بالمرتبة الاولى، أن لا يُكوَّن عراقٌ مركزيٌ تحت أي وجهة قومية أو ايديولوجية أو مذهبية، وتأتي في المرتبة الثانية الحركة السياسية لكوردستان التي لم تكن لديها أي اشكالية، أساساً منذ 1918، في حدود كيانها المكون، الان، من اربع محافظات، بل ما هو موضع الاشكالية الرئيسة للحركة في أية مرحلة زمنية هو كركوك والمناطق المتنازع عليها، كلما جحد الانتداب البريطاني آنذاك والاطراف العراقية بعدهم، لتلك الحقوق، أدى الى قطع جميع أنماط العلاقات والتعاون بين الطرفين وعادوا الى المربع الاول. لقد اعتبرت الحركة السياسية للاقليم كلا الخطين المذكورين كسور أحمر، إذ إنه وصل، الى حد ما، مع ثلاثتهم الى نفس النتيجة، فأي نماء حدث وأي ازمة طرأت، أجهضت فيهما حقوق الاقليم على الاقل، وأي محاولة للاقليم، ولو كانت المحاولة دستوريا، من أجل تطبيع المناطق الكوردستانية الواقعة خارج الاقليم، فورا اعترضتها وجهات النظر الامنية والمركزية ومؤازروها الاقليميون أضعافا مضاعفة، ولم تتشابك علاقتهم فحسب بل وصل الامر الى الهجمات العسكرية وتحجيم سلطة اقليم كوردستان وحدوده.
ثانيا: وجهة النظر الثانية:
هي وجهة نظر العراق بحكومته وأغلبيته البرلمانية، تجول وجهة النظر هذه في دوامة فزع كابوس انقسام العراق، وتوسع الاقليم أكثر، وتخطو تحت تأثير هذا الكابوس وهو الذي جعل مستوى العلاقات بين بغداد والاقليم يرجع الى الوراء. على الرغم من أن هذا التصور يظهر في أشكال مختلفة، لكنه يملك تفسيراً خاصا به للفدرالية بدل التعريفات السائدة لتطاريز الفدرالية، بحيث يقومون بتفريغ الفدرالية من مسالخ دلالتها والنظر اليها فقط من زاوية تجاوز اربيل حتى رسم خارطة لإبقاء العراق موحداً. ومصدر هذا يعود الى ذلك التصور الذي بني على أساس الفزع والاستياء، بدل تنظيم العلاقات على مبدأ الواجبات والحقوق والتزام الطرفين، وتقسيم الثروات والصلاحيات على مبادئ الفدرالية.
الأطراف المؤثرة:
اولا: الحكومة الإتحادية
من المعلوم ان الطرف الاساس في معضلات بغداد مع اربيل، هو مؤسسات الدولة الفدرالية (الحكومة والبرلمان). وكانت سلطات بغداد، وخصوصا بعد 2017، تبلور لديهم الركون الى توسيع دائرة السلطة المركزية على الاقليم والمحافظات الاخرى، رغم الاعلان عن أن سبب حلّ مجالس المحافظات هو من أجل مكافحة الفساد، الا انه الى جانب ذلك محاولة لتقليل سلطة الحكومات المحلية، توجد هذه الرغبة بشكل بارز لدى البرلمان والقادة الشباب وكثير من القيادات الحزبية.
والمطرح الرئيس لوجهة النظر هذه، هو أنه يتم تأمين الامن والتنمية الاقتصادية من خلال اعادة تقوية السلطة المركزية فقط، وينتقدون، علنا، بعض فقرات الدستور الخاصة بصلاحيات الاقليم والمحافظات، ويحاولون تعديلها.
ومن جهة أخرى، وبسبب ضعف موقع رئيس الوزراء الحالي، في البرلمان الفدرالي وحضور القوى الاقليمية والدولية في العراق، فلم يكن بمقدور الحكومة الحالية معالجة المعضلات، كما ان هذه الحقيقة هي واقعة لمعضلات وسط وجنوب العراق، بقدر ذلك واقعة في المناطق المتنازع عليها واقليم كوردستان أيضا.
بهذا الشكل وبسبب اقتراب موعد الانتخابات واستيلاء القوى السياسية الشيعية الغالبة في البرلمان على الارادة السياسية للحكومة، ومثولة برلمان لم تكن في صالحه أن يكون هناك حكومة ورئيس وزراء سليط قبل الانتخابات، وبالنتيجة فان الفاعل الرئيس للمشكلة ليس بمقدوره ولا في مصلحته أن يعالج تلك المعضلات.
وصار توجه تفكير الاطراف العراقية والفدرالية، على مسألة ادارة النفط مثل العقدة المشتبكة لتنظيم العلاقات، صادرا عن اربعة مناظر، وهي:
أ- من منظور سيادة الدولة وفعالية السلطة، يعتقد العراقيون أن الحكومة الفدرالية ليكون بمقدروها السيطرة على جميع القوى المنافسة السيادية للدولة، وخصوصا تلك القوى التي برزت بعد انتفاضة 1991 والاوضح بعد أحداث 2003، ينبغي لها ان تستولي على جميع القرارات المالية، لتستطيع من خلالها قطع مصدر وارداتها لتلك القوى الخارجة-المركزية واستمرارها، لذا بان بعض العراقيين يرون ان تحويز اقتصاد الكورد وهو اداة تضعيف قوتهم (البيشمركه)، هو المحطة الاولى للسيطرة على تلك الجماعات والقوى المسلحة غير النظامية الاخرى، وان بقاء البيشمركة خارج سيطرة المركز هو التبرير لعدم خضوع القوى الاخرى.
ب- من منظور التنمية، يرى بعض العراقيين أنه يطالب تجاوز المرحلة الانتقالية والانقاذ من سمات الدولة الهشة والفاشلة، ان تتبلور جميع الكفاءات والسلطات في قبضة السلطة المركزية، لذا فان بقاء ملف نفط كوردستان خارج سلطة المركز، هو أكبر عائق أمام هذه التنمية المطلوبة، ما جعل بالنتيجة، الشعب العراقي بأكمله والمكونات الاخرى ضحية مصالح الكورد.
ج- من المنظور الاستراتيجي، ليس لتمزيق قدرة العراق المالية وتقسيم ارادة التعامل بملف النفط بين الكورد والحكومة المركزية، بعد واحد وهو خطة تضعيف موقع العراق الاستراتيجي، المتبع بعد حرب الخليج الثانية فحسب، بل هو عامل خارجي لمنع اعادة الموقع المتين الضائع للعراق في الماضي.
د- من منظور الصراعات الداخلية: ان النفط ووارداته، كجُلِّ الموارد الاقتصادية والمالية الاخرى، هو مادة رئيسة للمعاملة غير المشروعة والفاسدة، التي تستخدم في صراعات داخل الاحزاب والتكتلات، بهدف تقوية الذات ولمِّ شمل الانصار والنفوذ، لذا فان رغبة بعض الاطراف العراقية في نزع ملف النفط من اربيل هي محور من محاور ذلك الصراع غير المشروع، وليس الهدف منها اعادة تقوية وتمتين اقتصاد العراق.
ثانيا: إقليم كوردستان:
اتبع اقليم كوردستان، طوال خمسة عشر عاماَ مضت، سياسة الاقتصاد المستقل، فهو يعتقد ان هذه السياسة التي اتبعها هي موائمة مع الدستور وخصوصا مع المواد 112 و 114 و 115، ومن الناحية السياسية، فقد فسر وجود اقتصاد شبه مستقل للاقليم لدى كثير من قادته كضمان لسياسة شبه مستقلة وعدم الولوج في ضغوطات بغداد، رغم أنه في البداية، لم تتفق الاحزاب السياسية على سياسة الاقتصاد المستقل، فقد اعتقد بعض أنها تؤدي الى نشوب اشكاليات مع بغداد، لكنها في الاخر، تغلبت هذه السياسة واضحت السياسة الرسمية لحكومة الاقليم.
الان وخصوصا بعد استقطاع حصة الاقليم من الميزانية، فقد واجهت هذه السياسة انتقادات محلية، وأدى تدهور الوضع الاقتصادي للاقليم، بسبب انخفاض سعر النفط، الى ضعف موقف حكومة الاقليم أكثر.
واذا أمعننا في وجهة النظر الكوردستانية وخصوصا في ملف النفط، يمكن أن تراعى أربعة مناظر رئيسة لفهم الملف، وهي تؤثر في طبيعة العلاقات بين بغداد واربيل:
أ- من المنظور القومي: ان التعامل بالنفط، لدى الكورد، هو أساس التعبير عن تلك الاستقلالية النسبية التي اكتسبوها بعد الانتفاضة إطار حدود العراق والمنطقة، من أجل الانقاذ من التهميش والانطوائية التي أصابهم، عشرات السنين قبل الانتفاضة.
ب- من المنظور الفدرالي: يرى الكورد أنه ينبغي أن تكون الفدرالية واللامركزية المالية أساساً لتقسيم الواردات والقرارات المالية، كما أنه ووفق دستور 2005 ينبغي ان تكون الفدرالية أساسا لتقسيم السلطة والقرارات السياسية في جميع المستويات التشريعية والقضائية والادارية.
ج- من المنظور الديموقراطي: يعتقد الكورد، اذا كان من المقرر ان تكون اعادة بناء دولة العراق بعد تغييرات 2003، بخلاف تقاليد حاكمية النظام البعثي والانظمة الماضية الاخرى وبشكل بعيد عن النزعة المركزية للسلطة وقمع المناطق الاخرى الخارجة عن سلطة المركز، فان منح الصلاحيات المالية للمناطق خارجة المركز هو احد الأبعاد للسيطرة على سلطة المركز والاياب مرة اخرى الى النظام الاستبدادي المركزي وتهميش الاخرين.
د- من منظور الصراعات المحلية: يرى بعض الاطراف الكوردية ان النفط ووارداته هو محور الصراعات الحزبية وتوازن القوى بين البقع السياسية-الجغرافية في الاقليم، لذا فان أي إيداع لهذا الملف للحكومة المركزية ربما تؤدي الى تعقيد تلك الصراعات واضطراب تلك الرجازة، وهذا ربما يُؤْدي ليس بالاقليم فقط بل بالعراق ايضا الى عدم الاستقرارية غير المرجوة.
لكن على مستوى المجتمع والحركات المعارضة عن نمط ادارة اقليم كوردستان، فقد تم خلق رأي عام في اقليم كوردستان وحكومته حول اعادة الاعتماد اكثر على العراق من الناحية المالية والاقتصادية وحلحلة المشكلات العالقة بينهما وفق فقرات الدستور. لكن ضعف اقتصاد الاقليم وعدم تنظيم نمط تعامله مع بغداد من قبل الاحزاب السياسية الكوردستانية الرئيسة من جهة، وعدم وجود حكومة قادرة على تنفيذ القرارات في بغداد من جهة اخرى، كل ذلك صار العقدة المتشابكة لعلاقة الطرفين.
ثالثا: القوى الاقليمية والدولية:
لا يخفى أن العراق واقليم كوردستان ايضا، هو الميدان المتين لصراعات القوى الاقليمية والدولية، حيث ان امريكا وايران هما العاملان الرئيسان فيه، هذا عدا عدد اخر من العاملين فيها مثل توكيا واوروبا وروسيا والسعودية. ان وجود هذه الصراعات الشاسعة في العراق وخصوصا بسبب حضور التنظيمات الارهابية العالمية في مناطق العراق المختلفة، جعل العراق تحت سيطرة الاستقطابات الاقليمية والدولية المختلفة، بهذا لم تكن علاقات الاقليم مع بغداد نائية من تأثير صراعات تلك القوى دوماً، فاحيانا أدت تلك القوى الخارجية دورها في تعميق او تضعيف العلاقات بين بغداد والاقليم وفي احايين أخرى أدت الى تحسين العلاقات بينهما.
المحور الثالث:
السيناريوهات والمقترحات
السيناريوهات:
لفهم نتائج المناقشات وعرض وجه الصورة الحقيقية، ينبغي عرض سيناريوهات ومستقبل العلاقات بين الطرفين المفاوضين، صحيح ففي مشروع ذلك القانون الذي تدور المناقشات حوله الان في مجلس النواب، وبالاخص في النصوص الخاصة بحصة اقليم كوردستان في ميزانية 2021، على الاقل، وبشكل رسمي، قد توصلت اليها حكومة اقليم كوردستان من خلال الاتفاق، هو موضع القبول. لكنه يمر بمناقشات ومن يحتمل كثيرا أن لا يحسم أمر تلك الفقرات والمواد المتعلقة بحصة اقليم كوردستان وخصوصا موضوع النفط او واردات النفط كما اقترحته حكومة الاقليم، لذا فقد ارتبط مستقبل هذا الموضوع باتفاق سياسي وارادة سياسية وفهم سياسي من قبل القوى السياسية العراقية والكوردستانية، لان الاختيار الصحيح و الحاسم هو ينبغي ان تُجرى المفاوضات والمناقشات، ولتحديد مستقبل تلك المناقشات والمفاوضات يمكن العمل على السيناريوهات الاتية:
اولاً: سيناريو الاتفاق:
يقترح الطرفان المفاوضان، سيناريو الاتفاق كحل، لكن ثمة خلافاً حول التفاصيل، فاقتراح مشروع ميزانية العراق (لاقليم كوردستان) هو موضع القبول، إذ انه يعتمد، الى حد ما، على الدستور ومنح حق ادارة الموارد الطبيعية بشكل مشترك، فتصر حكومة الاقليم، في المناقشات، على هذا الموضوع ويعدُّ نقطة قوة حكومة الاقليم، وتطالب الحكومة الفدرالية حسن النية والالتزام من حكومة اقليم كوردستان بتفاصيل وتسليم النفط الى شركة سومو.
في حالة تجسيد هذا السيناريو، يمكن ان يعرض هذا السيناريو ضمن سيناريويين:
1- الحل الشامل أو شبه الشامل: كتسليم جزء من النفط وابقاء جزء اخر، كما جرى مع حقيبتي العبادي وعبدالمهدي الوزاريتين. هنا يغض الطرفان البصر عن جزء من مطالبهما جراء حل وسطي.
2- الحل النهائي الجذري: وذلك من خلال تحديد نمط ثابت لتمويل اقليم كوردستان مثل كثير من الفدراليات المستقرة والعالمية المتقدمة، يكون هذا الحل نافعا لكلا الطرفين، لكن وضع العراق الراهن لا يسمح لاجراء خطوة كهذه في الامد القريب.
ثانياً: سيناريو عدم الاتفاق:
يعمل هذا السيناريو على احتمال مطالبة الطرف العراقي بتسليم النفط وملفه كاملا، حيث الان يجرى العمل عليه كورقة ضغط للانتخابات، يُراد أن تدار جميع واردات النفط وواردات الاقليم المحلية عن طريق حكومة بغداد، فالحكومة العراقية ترى انه رغم ان نفط اقليم كوردستان يباع في السوق بسعر أرخص وكانت تكلفة انتاجه قرابة عشرين دولارا لكل برميل، وهذا ما يفسر بأنه يضر بالثروات العامة، هذا اضافة الى اتهام الاقليم بوجود الفساد وعدم الشفافية في ادارة ملف النفط، الا ان هذا الطلب لدى حكومة الاقليم هو انتهاك للدستور العراقي، وفي الوقت نفسه هو تصغير لكيان اقليم كوردستان، فهذا التوجه لدى حكومة الاقليم هو توجه عقلية المركزية والتعامل مع الاقليم كمحافظة واحدة.
في حالة استمرار وتقدم هذا السيناريو يحتمل:
– أن يبقى الوضع كما هو الان: أي عدم الحلحلة، وهناك احتمال أمتن هو أن يستمر حتى الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة.
– أو أن يحدث تدهور أكثر: وذلك بسبب الوضع الاقتصادي المزري للاقليم وعدم حلحلة المعضلة ربما يؤدي الى أن يخطو اقليم كوردستان خطوات تصاعدية، منها: الرجوع الى للعمل بنتائج الاستفتاء والابتعاد الاكثر والانسحاب من العملية السياسية في بغداد. والان يستبعد وقوع هذا السيناريو وذلك بسبب عدم اتفاق احزاب اقليم كوردستان.
ثالثاً: سيناريو التوسط:
ان تطالب حكومة اقليم كوردستان من الطرف الثالث، وبالدرجة الاساس، الولايات المتحدة ومن ثم أمريكا أو ايران، للتوصل الى اجراء تفاهم مشترك قبل المصادقة على قانون الميزانية، واذا لم يتم العمل على هذا السيناريو في اقرب وقت، ينقضي زمنه (إن لم ينقضِ زمنه الان).
يُعتَقَدُ أن السيناريو الاقوى هو الثاني أي عدم الاتفاق وعدم موافقة البرلمان العراقي على مقترح الحكومة العراقية وتطالب بتسليم ملف النفط بكامله، ولم يوافق الاقليم على هذا الطلب، لان سبب عدم موافقته، على الاقل، هو: انه انتهاك للدستور العراقي.
المقترحات:
من اجل حلحلة المشكلات بين اربيل وبغداد وأيضا لكي لا تكونا سببين في التدخل الخارجي وعدم الاستقرار السياسي والامني في العراق واقليم كوردستان أيضا، نرى ضرورة هذه المقترحات:
أولاً: بالنسبة للحكومة الاتحادية:
– العمل باحساس الوثوقية بينها وبين اقليم كوردستان والاجتناب من اسلوب الثأر ضد الاقليم وعدم استخدام قضية اقليم كوردستان كموضوع للانتخابات وتقوية بعض الاطراف ذاتها من خلال هذه المسألة. ان أساس أي اتفاق مستقبلي هو الثقة، فقد ضعفت هذه القيمة وخصوصا بعد عملية الاستفتاء والاستيلاء العسكري على كركوك والمناطق المتنازع عليها من قبل العراق، لذا تفتقر الى اعادة تقويتها مرة أخرى.
– التأكيد على الحل الدستوري والابتعاد عن المطالب التي تحث على تغيير الدستور لمصلحة طرف واحد ضد المكونات الاخرى. إصدار القوانين المشار اليها في الدستور وقد أهملت حتى الان، وفي الوقت نفسه حلُّ القوانين المتمحورة حول المركز.
– اصدار قانون النفط والغاز عاجلا، على أساس البنود 111 و112 و 114 و 115 من الدستور، ووضع آلية ثابتة ودائمة لنمط تقسيم الواردات النفطية، وادارة ملف النفط والغاز مع الاقليم والمحافظات.
– تشكيل الهيئة المستقلة الخاصة بادارة الواردات النفطية بشكل عادل، على غرار ما ورد في المادة 106 من الدستور.
– من اجل تعميق المناقشات والتوصل الى حل المشكلات الدائمة، من الضروري العمل على تشكيل المجلس الفدرالي (المجلس الثاني) الذي يمثل الاقليم والمحافظات، كما ورد في المادة 65 من الدستور ولم يُجرَ العمل عليها.
ثانياً: بالنسبة لحكومة إقليم كوردستان:
– جَعلُ بغداد والحكومة الفدرالية المركز الرئيس للعمل السياسي والضامن الحقيقي لحقوق الاقليم السياسية والدستورية مرة اخرى، واجتناب سياسة (المتاركة) التي تعود بالضرر الى الاقليم.
– الانفتاح الاكثر على المجتمع العراقي العربي (الشيعي والسني) بكل معضلاتهما ومطالبهما والابتعاد عن أي سياسة للاقليم التي تؤدي الى الانطوائية وأيضا الى اجتناب البعد الفدرالي والوطني العراقي.
– البت في ملف النفط وفق الدستور وحقوق العراق الحصرية والمشتركة والخاصة بالاقليم، والابتعاد من اية خطوة تصاعدية فردية بحيث تؤدي الى مزيد من الاستياء وافشاء عدم الثقة.
– الاستفادة أكثر من تلك التنميات الحاصلة في المجالات الاقتصادية والبنى التحية في اقليم كوردستان لصالح الاقليم وبغداد بشكل مشترك، والتمازج الاقتصادي الاكثر مع الاجزاء الاخرى للعراق، والذي يؤدي في النهاية، الى التفاهم والتقارب الاجتماعي والسياسي والثقافي.
– مؤازرة الاجزاء الاخرى للعراق لتشكيل اقاليم فدرالية اخرى، كأرضية خصبة لترسيخ ووجاهة النظام الفدرالي.
ثالثاً: بالنسبة للحكومة الاتحادية والاقليم كليهما:
من المنظور الذي اتفق عليه الطرفان على أن يكون الدستور المبدأ الاساس للتفاهم وحسم المعضلات، من الممكن، وحسب تلك التفسيرات المختلفة التي أجريت لكلتا المادتين 111 و 112 من دستور 2005، وعلى ضوء تجربة الدول الفدرالية في العالم، ينبغي العمل على معالجة ملف النفط والميزانية وفق احدى الادوات الاتية:
– تأمين غالبية نفقات الاقليم من قبل الحكومة الفدرالية (كما هو نافذ في دولتي برازيل وفنزويلا)، ازاء قناعة الاقليم بهيمنة الحكومة الفدرالية على أغلبية الموارد الطبيعية لِلَمِّ واردات البلد.
– تخصيص نفقات الاقليم بالاشتراك بين الاقليم والحكومة الفدرالية (كما هو نافذ في نيجيريا) في ظل ضمان موارد مطلوبة لِلَمِّ الواردات لكلا الطرفين.
– تخصيص جمیع أو أكثرية نفقات الاقليم من قبل الاقليم نفسه (كما هو نافذ في دولة الامارات) ازاء ترك أغلبية الموارد الطبيعية للم الواردات للاقليم.
رابعاً: بالنسبة للمجتمع الدولي والقوى الاقليمية:
يمكن أن تؤدي القوى الدولية والاقليمية دورا ايجابيا في حلحلة معضلات كلا الطرفين. حيث ان دورهما بائن في الواقع الحالي للعراق والاقليم. ومن خلال ابعاد صراعاتهم من العراق والاقليم وحث الطرفين على المفاوضات العميقة والمتشتية، يمكن ان يهيؤوا أجواء إنجاح المناقشات، وأن يجعلوا العراق أرضية لتفاهمهما وأن يتعبوا استراتيجة فوز-فوز (الفوز المضمون)، على عكس ذلك فاذا كان العراق وكوردستان ميدانين للصراعات، فيؤدي ذلك الى إذلال كلا الطرفين ويمهد الطريق لبروز قوى متطرفة كالداعش والقاعدة مرة اخرى، ولا تصيب اضرارها العراق فقط. هنا بمقدور ايران، امريكا والولايات المتحدة أداء دور رئيس، ويمكن ان يكون من خلال الولايات المتحدة او كلتيهما في اعادة خلق الثقة بين الطرفين.
قراءات-مستقبلية-رقم -8- 2020 عربى