الديمقراطية في أزمة

2021-01-16 11:48:31

مریوان وریا قانع  -  آراس فتاح  زاوية اسبوعية يكتبها  ل(  الحصاد DRAW )  : -

ترجمة : عباس س المندلاوي
عندما إقتحم انصار ومؤيدو الرئيس الاميركي المنصرف دونالد ترامب مجلس النواب الاميركي وأنهوا الجلسة الخاصة بالمصادقة على انتخاب الرئيس الجديد جو بايدن كالرئيس ال (46) للولايات المتحدة الاميركية ،  ظهر الى السطح مرة اخرى مسألة جدوى الديمقراطية والتمثيل النيابي ومساؤيها وفوائدها للمجتمعات ، والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة في هذه الظروف هو من اين أتى هؤلاء المحتجين والعنيفين داخل النظام الديمقراطي ؟ 
أبسط تعريف للديمقراطية هو سيادة او حكم الشعب لنفسه ، وحتى القرن الثامن عشر كان يُفهم  من مصطلح الديمقراطية إنه  الديمقراطية المباشرة ؛ اي كان نفس المفهوم الذي كان متداولا  في عهد اليونانيين القدماء ( الاغريق ) . والقصد من ذلك الفهم للديمقراطية حكم الجميع للجميع ، وهذا النوع من الديمقراطية واجه العديد من العراقيل والعقبات والحدود عند التطبيق . ولكن في العهد الحديث والمدنية وتزايد عدد السكان بكثير عما كان عليه في المدن اليونانية ؛ يطبق  نوع اخر من الديمقراطية وهي الديمقراطية غير المباشرة .
والديمقراطية الراهنة هي عبارة عن تلك الديمقراطية غير المباشرة والمسماة الديمقراطية التمثيلية – النيابية( البرلمانية ) ؛ في هذا النوع لا يحكم الشعب مباشرة بل عبر نوابه في البرلمان  او ممثليه المنتخبين ، ويقال لهذا النوع من الحكم  " دولة القانون" أي دولة تدار بموجب دستور ديمقراطي يؤمن به معظم افراد المجتمع وجعلوه عقدا اجتماعيا للادارة الذاتية ، ويحدد بموجبه الحقوق والواجبات كما انه يصون حريات الافراد . كما السلطات فصلت الى ثلاثة اعمدة مستقلة عن بعضها وهي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، يتم اجراء انتخابات دورية كل اربع او خمس سنوات لا ختيار ممثلي الشعب والحكومة و انتقال سلمي وسلس للسلطة ، ويحق لمجلس النواب ( البرلمان ) عزل الحكومة عبر سحب الثقة منها واللجوء الى اجراء انتخابات مبكرة ، هذا النظام الديمقراطي النيابي ( برلماني ) قائم منذ عدة قرون .
 

ومانراه اليوم هو حدوث ازمة التمثيل ( النيابي ) في هذا النظام الديمقراطي ؛ أزمة تصيب صميم الديمقراطية بارباك كبير و متعدد ، هنالك شعور بالتهميش  وعدم التمثيل في قطاع ملحوظ من شرائح المجتمعات الغربية من الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا ، بمعنى آخر يعتقد هؤلاء ان الانتخابات الحرة كآلية رئيسة للنظام البرلماني لا تستطيع ايصال اصواتهم الى مراكز القرار والمشاركة الفعلية ؛ أي أن الانتخابات لن تكون الوسيلة الانجع لخلق نظام سياسي مناسب وملائم للتمثيل ، اضافة الى ان عملية الاقتراع تُجرى مرة كل عدة سنوات والناس تطمح لوسيلة وسبيل اسرع لاسماع اصواتهم ويكونوا على اتصال بالصعيد السياسي وفاعلين فيه .
ويشير المحللون والخبراء في مجال الانتخابات والسياسة ان  الأوضاع السياسية خلال العقود الثلاث او الاربع المنصرمة جعلت عدد كبير من المواطنيين يشعرون بعدم وجود فروق بين الاحزاب السياسية او صراع العقائدي فلم تبق حدود بين اليساريين واليمينيين ؛ فلا مماحكات او تمايزات بين البرامج السياسية للقوى السياسية التي اصبحت متقاربة ومستقرة في مركز الصعيد السياسي لا يسارية ولا يمينية ، وهذه الاوضاع افرزت نخبة سياسية متشابهة ومتماثلة وهلامية ومعظمهم يتعاملون وفق اسس واصول في نظام  الليبرالية الجديدة وينتهجون نفس السبيل ويتجهون للافق ذاته  ، لذلك لا اهمية او معنى للتصويت لهذا الحزب او ذاك او برنامجه الانتخابي . وفي هذا الوضع يشعر كثير من المواطنين بعدم جدوى الاقتراع او الانتخاب اذ إن جميع القوى السياسية تتشابه وتضاءلت الحدود التي تميزها عن بعضها ؛ فلم تبق التمايزات العقدية والفكرية او حتى على صعيد الخطوط العامة للعمل السياسي او المميزات الكبيرة في برامجها السياسية ، فلا تجد اي اختلافات جوهرية حقيقية بين الاحزاب ونظرائها في المعارضة ؛ فخلق هذا وضعا يتحول المقترع ( الناخب ) من اقصى اليسار الى اقصى اليمين دون ان يلمس اي خلاف او مشكلة او اختلاف .
المشكلة لا تقتصر على تشابه وتطابق الاحزاب السياسية فقط ، بل ما يعمق اشكالية  التمثيل ( النيابي ) عدم وجود النقابات او اضمحلالها ؛ سيما النقابات العمالية التي كانت تضم ملايين العمال وتشكل ثقلا سياسيا و ومؤثرة على القرارات السياسية و برامج وعمال الحكومات والشركات .وعندما تتشابه الاحزاب وبرامجها فلا يبقى شيء يذكر بينها حتى يختاره فئات وشرائح المجتمع ، فيُهمش النقابات ويضعف دورها ويتناقص عدد اعضائها ومؤيديها بشكل كبير؛ وبذلك يتم تفريغ المؤسسات والاوساط خارج الاحزاب والتي تمثل العمال والشرائح الدنيا داخل المؤسسات السياسية تفرغ من محتواها وجدواها وتصبح على الهامش وتضعف كليا . 
  

الاوضاع تنحدر وأزمة التمثيل تتفاقم عندما لا تتمكن الانتخابات من  تحقيق غايتها في طرح قوى سياسية مختلفة للمجتمع فضلا عن ضعف النقابات ، مما يخلق شعورا بعدم تمثيلهم في الصعيد السياسي بل ولا يحسون بالإنتماء للدولة او المجتمع ، ويسيطر خيبة الامل والاحباط والشعور بالتهميش والدونية عليهم ويفتقدون للوسيلة والسبيل الذي يوصل اصواتهم للاوساط السياسية ومراكز القرار، مما يجعلهم لنبذ السياسة والتشكيك فيها ومقاطعة الانتخابات . وكان هذه المقاطعة من المشاكل الرئيسة لنظام التمثيل النيابي الذي افرزته الديمقراطية خلال العقدين الماضيين ؛ عميات المقاطعة بلغت حدا خطيرا جعلت بعض الاحزاب السياسية في اوربا طرح فكرة تشريع إلزامية المشاركة في الانتخابات .
الحركات الشعبوية في العالم تعمل اليوم على تلك الاصوات الرافضة التي تشعر بالتهميش وفقدان الهوية والوحدة وعدم التمثيل ؛ الشعبويون يعرضون انفسهم كممثلين لاولئك المهمشين وغير المُمَثَلَين على الصعيد السياسي ،و يطلقون عليهم اسم الناس او الشعب او حتى الامة ، ويدعي الشعبويون انهم سيعالجون تلك القطيعة والمسافة بين النظام السياسي والمجتمع وردم الثغرة الحاصلة بين السلطات والشعب والامة . ويقولون انهم سيعيدون السياسة والدولة والمجتمع للشعب ، وإستعادة الهوية الحقيقية لابناء بلدهم الاصليين ، فضلا عن حل أزمة التمثيل ومسألة السيادة القومية؛ استعادة أميركا للاميركيين وبريطانيا للبريطانيين ( الاصليين ) وإخراج الغرباء واستعادة الاعمال من أيديهم .  أناس مثل ترامب ولۆپین و أوربان و کاچینسکی وغيرهم يتحدثون بلسان الناس الذين يعتقدون انهم منسيون ومهمشون وغير ممثلين ، أُناس يقال ان النخب السياسية الحاكمة لاتراهم وهمشتهم . القوى والحركات الشعبوية يبشرون الافراد والمجموعات المهمشة في المجتمع بتمثيلهم وايصال اصواتهم ، ويصورون النخب السياسية الحاكمة كطبقة سياسية فاسدة ومنقطعة عن المجتمع .
وهناك نقطة اساسية أخرى فاقمت وعمقت أزمة التمثيل في عالم اليوم وهي ظهور الاعلام الرقمي – الالكتروني (Digital media  ) سيما شبكات التواصل الاجتماعي ( social media)  ، الاعلام الحديث أحدثت تغييرات كبيرة في مفهوم التمثيل ، فقبل ذلك كان الفرد يُمَثَل من قبل المنظمات والاحزاب السياسية والنقابات والكنيسة والاوساط الاخرى فقط ، وتلك الاوساط كانت تتحدث باسم اعضائها ومؤيديها  ومنحتهم الهوية . ولكن في عصر الاعلام الرقمي – دجيتال  خفت الحاجة الى تلك الاوساط  ( الجماعية ) لتمثيل الافراد وفي كثير من الاحيان انتفت الحاجة اليها ،  فالأفراد الان يمثلون أنفسهم مباشرة ويلتقون بأشخاص آخرين مثلهم في نفس المساحة والفضاء الالكتروني  .في الوقت الراهن اصبح هناك مجتمع يمثل نفسه عبر الاعلام الرقمي باستمرار ويعبر عن نفسه دون الحاجة الى وسيط غيره .

وهذا التمثيل الشخصي ( الفردي ) خلق وضعا جديدا ن يستطيع فيه الفرد تمثيل نفسه شخصيا داخل النظام السياسي وليس كعضوٍ في هذه الشريحة الاجتماعية او تلك أو المجموعة ( الجماعة ) الخاصة ؛ الافراد يرون ويَعْرِضون أنفسهم ككيان سياسي مستقل ويطالبون بمعاملة خاصة لهم ولمشاكلهم ومطالبهم ، ويطالبون أو على الاقل ينتظرون تمثيل أنفسهم ومطالبهم بأنفسهم وان يكونوا جزءا من الخطاب والقرار السياسي . وهكذا سيُخْلَق وضع مختلف عما كان عليه قبل ظهور الاعلام الرقمي – دجيتال ميديا ، حيث كان التمثيل مقيدا بالانظمام ( عضوية ) لهذا الوسط الجماعي او ذاك او تلك المنظمة . وهذا الوضع الجديد يصعب مسألة التمثل بل يقربها من المحال ؛ بشكل يضخم شعور التمثيل لدى اولئك الافراد فتستغل القوى الشعبوية ذلك في تقوية نفسها .

هناك بعض منظري العلوم السياسية يتحدثون عن نهاية ديمقراطية الحزب “ party democracy” واحلال  ”ديمقراطية المشاهدين – المتفرجين “ “audience democracy" محلها . في الاولى يتم الوصول الى السلطة بالصراع والتنافس بين البرامج ولافكار والعقائد المختلفة ، ولكن في الثانية تكون الاهمية والتأثير والمحك هي الشخصية واسلوب التحدث والخطاب و تحرك الشخصية السياسية واللغة والمنطق الذي يتحدث به الشخص . تغريدات الرئيس الاميركي المنصرف دونالد ترامب و مقاطع الفيديو والمنشورات والرسائل والتعليقات التي ينشرها ويستلمها الساسة عبر شبكات التواصل الاجتماعي (  فيس بوك و واتس آب وتويتر ..الخ ) تصبح نموذجا  لتلك العلاقة  التي تصنعها " ديمقراطية المشاهدين – المتفرجين  . كل ذلك خلق تغييرا هائلا في مسألة التمثيل . 
في الحقيقة تعتبر الشعبوية احدى افرازات أزمة التمثيل هذه والتطورات والمتغيرات التي ظهرت مطلع الثمانينات من القرن المنصرم ، ويعد ظهور الشعبوية  ردفعل عللي ومرضي على تلك التغييرات .و بالطبع تتعلق تلك المشاكل بشكل مباشر بسيطرة السياسات الليبرالية الجديدة ؛ وتدخل الدولة السافر في الاسواق واقتصاد البلاد بالتزامن مع تفشي جائحة كورونا ، وكذلك تصاعد حدة الصراعات العقائدية والحزبية وتشكيل او ظهور حركات اجتماعية جديدة واجهت تحديات كبيرة .وبمعنى اننا ربما سنشهد في العقد المقبل شيء من انتعاش الحياة الحزبية والنقابية وتشكيل حركات اجتماعية جديدة ونوع جديد من المشاركة السياسية ،من شأنه معالجة بعض افرازات وتداعيات أزمة التمثيل ، ولكن كل ما يتعلق بتغيير المجتمعات و بعملية أعلمة العلاقات والخطابات و ما يتعلق بظاهرة التمثيل الفردي وتعميم الوضع الفردي ؛ فهو بحاجة الى معالجات ابداعية ونظام جديد للمشاركة المدنية للمواطنين في السياسة والحكم .الاوضاع الراهنة في العالم اتاحت للناس مجالات وسبل مختلفة وعديدة للمشاركة والظهور والتحدث و الاعتراض والرفض والغضب غير التصويت والانتماء للاحزاب السياسية والنقابات .ان معالجة ازمة التمثيل المهولة هي التحدي الرئيس الذي يواجه الديمقراطية اليوم  . فالشعبوية هي الرد الخاطيء والخطير لجميع المشاكل والتحديات الجديدة في قرن ال (21) ،  ترامب وامثاله آخر من يستطيع معالجة هذه الاشكاليات .
 


 

بابه‌تی په‌یوه‌ندیدار
مافی به‌رهه‌مه‌كان پارێزراوه‌ بۆ دره‌و
Developed by Smarthand