السليمانية تغلي وتصرخ… فهل تسمعها بغداد؟
2020-12-06 22:14:47
الحصاد draw:
صلاح حسن بابان- صحافي كردي عراقي
"لم يخل أي شبرٍ من عناصر الأمن، فكل زاوية فيهما كانت مغطاة بجزمات عسكرية غاضبة حاقدة لم يكن في قلبها إلا الانتقام"... تظاهرات السليمانية تندلع جغرافياً في إقليم كردستان، لكنها سياسياً تندلع في عمق العاصمة بغداد.
يقفُ كاروان علي (19 سنة) خلف بسطةٍ صغيرة لرجل مسنّ تركها هارباً من تأثير الغازات المسيلة للدموع، في أحد أزقة سوق مولوي الشهير، وسط مدينة السليمانية الذي تحوّل لاحقاً إلى مركز انطلاق الاحتجاجات، يقول فيما عيناه تُراقبان تحرّكات عناصر الأمن بحذر خوفاً من اعتقاله مثل غيره: “ماذا تريد منا هذه الحكومة، بعدما جعلتنا عبيداً لها وأوصلتنا إلى التفكير بالهجرة؟”. علي ليس الوحيد المكتوي بنار انعدام فرص العمل والوظائف، حتى بأجور متدنية، فهي ظاهرة يعيشها شباب الإقليم منذ عام 2014، بعدما قطعت الحكومة الاتحادية الميزانية السنوية عن إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي أمنياً وإدارياً بعد الانتفاضة الشعبية عام 1991، وفيه مطاران دوليان ومعابر ومنافذ حدودية. كما يصدّر النفط باستقلال عن بغداد بعد توقيع عقد لـ50 سنةً مع الحكومة التركية عام 2013، محققاً بذلك إيرادات شهرية تصل إلى مليارات الدولارات. هذه المرة يقف مع علي في مطالبه آلاف الموظفين و37 نائباً في برلمان الإقليم يشاطرونه صرخته.
“ردّت سلطات الأمن على من يطالب بحقه المسلوب من الرواتب ورغيف الخبز بالرصاص المطاط والغازات مسيلة الدموع”، يقول النائب المعارض في برلمان كردستان سيروان بابان الذي يشارك في احتجاجات السليمانية: “تلقيت ضربات موجعة، أقدام نحو 30 عنصراً من عناصر الأمن تركت على جسدي كدمات كثيرة”. لم يشفع له أنه نائب في البرلمان يمثّل الشعب. مثله 37 نائباً غيره يشكّلون في البرلمان كتلة معارضة من مختلف الكتل الكردية باستثناء “كتلة الحزب الديموقراطي الكردستاني”، رفعوا سقف ضغوطهم لإفشال عقد جلسة تشريعية اعتيادية قبل مناقشة أزمة تأخر الرواتب والأزمة السياسية بين بغداد وأربيل.
وهدّد “مجلس الضغط” الخاص بالاحتجاجات الغاضبة في إقليم كردستان، بإضراب عام وشامل في عموم مناطق الإقليم رداً على تأخير الرواتب، ملوّحاً بنقل الإضراب من السليمانية إلى عمق أربيل الأكثر تحصناً من قوات “الديموقراطي الكردستاني” القابض على مدينتي أربيل ودهوك من الناحية الأمنية والإدارية.
بابان يقول إن “المسؤولين وعائلاتهم يتمعتون بالرفاه وبحياة رغيدة، أسعار سيارتهم تصل إلى آلاف الدولارات، يقابلها فئات معدومة لا تملك ثمن الخبز قوت يومها”. يأتي هذا الحديث فيما تعجزُ حكومة كردستان عن دفع رواتب موظفيها، على رغم اعتمادها نظام ادخار الرواتب الذي يقضي باستقطاع ما نسبته 21 في المئة من الموظفين.
قدّم 32 عضواً في برلمان إقليم كردستان يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مذكرة إلى رئاسة المجلس لمناقشة اتفاقية بيع نفط الإقليم إلى تركيا لمدة 50 عاماً، وتقييمها على ضوء التطورات الأخيرة في العلاقة المالية بين بغداد وأربيل. سبق ذلك حديث رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني في مؤتمر صحافي في 15 تشرين الثاني الماضي عن أن “العقد المبرم بين حكومة كردستان وتركيا لبيع النفط لمدة 50 عاماً لم يكن السبب في المشكلة الحالية بين حكومتي بغداد وإربيل”.
وادخرت حكومة الإقليم حتى الآن رواتب أشهر، نيسان/ أبريل لغاية آب/ أغسطس، من عام 2020، ولم توزع سوى ثلاثة رواتب للعام الحالي مع ثلاثة رواتب للعام الماضي، وبدأت مع بداية هذا الشهر توزيع رواتب شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي مع اقتطاع نسبة 21 في المئة منها.
هل هناك شبه بين ما يحدث في السليمانية وما حدث ويحدث في بغداد وفي مدن الجنوب العراقي خصوصاً الناصرية؟
“لم يخل أي شبرٍ من شارع مولوي وساحة السراي من عناصر الأمن، فكل زاوية فيهما كانت مغطاة بجزمات عسكرية غاضبة حاقدة لم يكن في قلبها إلا الانتقام”، بحسب النائبة عن “كتلة التغيير الكردية” في برلمان الإقليم شيرين أمين، التي شاركت في التظاهرات وأغمي عليها جراء الغاز مسيل الدموع: “لماذا يدافعون عن سلطة فاسدة لن يرحمهم التاريخ أبداً…” قاصدةً بذلك عناصر الأمن. صورة أمين التي يحملها متظاهرون، بعد غيابها عن الوعي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. وهي زوجة الصحافي الكردي كاوة كرمياني الذي اغتيل عام 2013 في منطقة كرميان: “بعد اليوم سيكون عملنا في الشارع وليس في البرلمان دعماً للمتظاهرين ومطالبهم”.
وتزامناً مع اعتقال حوالى 20 متظاهراً، تستعد مناطق كردية عدة للانخراط في صفوف احتجاجات السليمانية، فمجلس المعلمين فيها حذر القوات الأمنية من بركان غضب، في عدم إطلاق سراح المعتقلين. ويقول عضو المجلس عثمان كولبي: “لن تهدأ الاحتجاجات الجماهيرية ما لم تُحقق حكومة كردستان مطالبنا، أبرزها القضاء على الفساد المستشري في جميع المفاصل، وتوزيع الرواتب في وقتها المحدد من دون تأخير”.
لا تمتلك اللجنة الأمنية في السليمانية التي يرأسها محافظ المدينة هفال أبو بكر حيلة سوى إصدار بيانات إدانة ودعوات لتهدئة الأوضاع: “لا نسمح بأي تجمعٍ أو تظاهرة ما لم تحصل على موافقات من الجهات الرسمية”، وهو ما دفع النائب عن كتلة التغيير في البرلمان العراقي هوشيار عبدالله إلى توجيه رسالة للمحافظ، والاثنان ينتميان إلى الحزب نفسه، يسأله فيها: “هل كنت تمتلك رخصة التظاهر عندما كنتَ أحد قادة الاحتجاجات في ساحة السراي في السليمانية عام 2011؟”.
هل هناك شبه بين ما يحدث في السليمانية وما حدث ويحدث في بغداد وفي مدن الجنوب العراقي خصوصاً الناصرية؟ يجيب النائب الكردي في البرلمان رابون معروف: “هناك فعلاً نقاط مشتركة، إلا أن تظاهرات كردستان جاءت للمطالبة بحقوق الموظفين والفئات الأخرى، فيما تمتنع بغداد عن إرسال حصة الإقليم من الميزانية الشهرية، وعجز الحكومة الكردية عن دفع الرواتب”.
لم تكن الأزمة الاقتصادية التي ضربت بغداد خلال الأشهر الأخيرة من عام 2020 عاملاً بارزاً وسبباً رئيساً لامتناعها عن دفع مستحقات الإقليم المالية والتي تعود جذورها كما يرى معروف إلى عام 2014، خلال وجود نوري المالكي في رئاسة الوزراء(2006-2014)، بل إلى طبيعة الصراعات السياسية بين العاصمة العراقية وأربيل حول السيادة وما يتعلق بالمعابر الحدودية والمنافذ التي تحقق واردات ضخمة تصل إلى مليارات الدولارات شهرياً لحكومة كردستان. بهذا المعنى فإن تظاهرات السليمانية تندلع جغرافياً في إقليم كردستان، لكنها سياسياً تندلع في عمق العاصمة بغداد.
daraj